الخميس، 26 مارس 2020

شرح حديث: ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) - الشيخ سليمان الرحيلي


بسم الله الرحمن الرحيم


[صحيح] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( لو يعلم الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأولِ، ثم لم يجدوا إلا أنْ يَسْتَهِموا عليه؛ لاسْتهموا، ولو يعلمون ما في التَّهجيرِ؛ لاسْتَبَقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمةِ والصبحِ؛ لأتوهما ولو حَبْواً ). رواه البخاري ومسلم.

-      ( لو يعلم الناسُ ): وهذا عامّ أريد به الخصوص، وهم المسلمون.
-      ( ما في النداء ): أي ما في الأذان.
-       ( والصف الأول ): وسيأتي الكلام عن الصف الأول إن شاء الله ما المراد به.

-      تلحظون هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ما فيه، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الأذان وعظيم فضل الصف الأول، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يشعرنا أن فضائلهما لا تُحصر، ولذلك لم يبين هذا الفضل، فيدخل فيه الخير والبركة وعظيم الثواب، كلها تدخل في هذا.
يعني: لو يعلم الناس ما فيه النداء والصف الأول من الخير لهم والبركة في حياتهم وعظيم الثواب وعظيم ما يلقونه عند لقاء الله عز وجل ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا.

-      ( إلا أنْ يَسْتَهِموا عليه ): أي إلا أن يقترعوا عليه.
والمقصود: إذا لم يكن لأحدهم أولوية، أما إذا كان لأحدهم أولوية شرعًا فإنه يقدَّم، يعني: لو ازدحم اثنان على الأذان وأحدهما صيّت حسن الصوت وكان الآخر خفيض الصوت ضعيف الصوت، فلا نقرع بينهما، وإنما نقدّم من كان صيّتا حسن الصوت؛ لأن له الأولوية شرعًا.
ولو ازدحم اثنان على مكان في الصف الأول، وكان أحدهما قد سبق بخطوة، وجاء الثاني من وراءه يسعى حتى وقف بينه وبين المكان وقال نقترع، قلنا: لا، المكان للسابق.
أما إن لم تكن هناك أولوية فإنه يُقْرَعُ بينهما، وصل اثنان إلى مكان في الصف الأول في نفس الوقت وتشاحا في المكان، فإنه يُقرع بينهما ومن خرجت له القرعة فالمكان له.

-      وهذا دليل على مشروعية القرعة.

-      ( إلا أن يستهموا عليه ): (عليه) جاء بضمير المفرد، وهو عائد إلى النداء والصف الأول، فيكون المعنى: (عليه) أي على المذكور؛ لأن الغالب أنه لا يقع التزاحم على الاثنين، وإنما يقع إما على الصف الأول أو على الأذان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليه ).
وجاء في رواية عند عبد الرزاق: ( عليهما )، وهذه ظاهرة.

-      وهذا دليل على فضل الأذان، وأن الأذان من أفضل الأعمال، حتى أنه لو احتاج الناس أن يقترعوا عليه لاقترعوا.

-      ذكر الطبري أنه في يوم القادسية أصيب المؤذن الراتب، فتشاح الناس وتشاجروا على الأذان، فأَقْرَعَ بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

-      وفيه دليل على فضيلة التبكير إلى المسجد والصف الأول، وأن السبق إلى الصف الأول من أفضل الأعمال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

-      والسبق للأجساد لا للسجاد، أن يبكّر الإنسان بنفسه ليكون من أهل الصف الأول، أما أن يتأخر في بيته ويرسل سجادة أو يوصي زميله بأن يجلس ويتسع في جلوسه حتى يُبْقِي له مكانا إذا جاء فليس من المشروع؛ لأنه أولًا لم يفعل ما طلب منه شرعا وهو التبكير إلى الصف الأول، وثانيا: لأنه قد غَصَبَ المكان من مستحقه، لأنه قد يأتي إنسان قبله، ويجد المكان مفروشًا بالسجاد، أو يجد الرجل قد توسع في المكان.
قال ابن تيمية لما تكلم عن مسألة وضع الفرش في المساجد لحجز المكان، قال: " والصحيح أن لغيره أن يرفع فراشه من مكانه ويصلي فيه لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك المكان المتقدم، لكن ينبغي أن يُرَاعَى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه ".

-      وقد نص العلماء على أن المبكر إلى المسجد حتى لو لم يصل في الصف الأول إذا لم يُفَرّط أفضل ممن جاء متأخرا وصلى في الصف الأول.
يقول ابن عبد البر رحمه الله: " لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكّر وانتظر الصلاة وإن لم يصلّ في الصف الأول أفضل ممن تأخر عنها ثم صلى في الصف الأول "، وهذا يكون من غير تفريط الـمُبَكّر إلى المسجد في الصف الأول.

-      ( ولو يعلمون ما في التَّهجيرِ لاسْتَبَقوا إليه ): التهجير هو الذهاب إلى المسجد في وقت الهاجرة، والهاجرة هي شدة الحر في منتصف النهار، ولذلك قال بعض العلماء: المقصود بالتهجير التبكير إلى صلاة الظهر.
وقال بعض أهل العلم: المقصود التبكير إلى صلاة الجمعة.
وقال بعض العلماء: بل تدل على التبكير لكل صلاة من باب أولى، لأن الذي يبكر إلى الصلاة وقت شدة الحر من باب أولى أن يبكر إلى الصلاة في غير هذا الوقت.
والشاهد: أنها من جهة النص: صلاة الظهر، وفي هذا فضيلة للتبكير إلى صلاة الظهر وقت اشتداد الحر، ومن حيث المعنى تشمل كل صلاة، ففي الحديث فضيلة التبكير إلى الصلوات.

-      ( ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ): تسابقوا إلى التبكير لعظيم ما فيه من الفضل.

-      ( ولو يعلمون ما في العَتَمةِ والصبحِ؛ لأتوهما ولو حَبْواً ): صلاة العشاء والصبح في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأتوهما )، فهذا الفضل العظيم المخبّأ لعظمه إنما هو لمن يذهب للمسجد ليصلي العشاء أو الفجر.

-      وقد اختلف العلماء في تسمية العشاء بالعتمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يغلبنكم الأعراب على صلاتكم يسمونها العَتَمَة وإنما هي العشاء فقولوا العشاء ).
فذهب بعض أهل العلم إلى كراهة أن تسمى العشاء عتمةً، إلى اليوم؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما ورد في النصوص فيصْرف النهي إلى الكراهة.
وقال بعض أهل العلم: النهي في أول الأمر قبل أن يستقر اسم صلاة العشاء في نفوس الصحابة، فلما استقر اسم صلاة العشاء صار لصلاة العشاء اسمان: صلاة العشاء والعتمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها كما معنا هنا، فهذا تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم.

-      لماذا خص النبي صلى الله عليه وسلم العشاء والصبح بهذا الفضل؟
قال العلماء: لثقلهما، لأن العشاء يكون وقت غلبة الضعف والنوم على العامل، الذي يعمل طوال النهار وهذا الأصل في الرجل، فإذا رجع إلى البيت عند المغرب واستراح وتعشى يغلب عليه الضعف، يصيبه الضعف والنوم والنعاس، فالذهاب إلى المسجد إذ ذاك ثقيل، والفجر أيضا يكون بعد النوم، فكون الإنسان يستيقظ من نومه ويتوضأ ثم يخرج إلى المسجد هذا ثقيل، فَقَابلَ هذا الثقلَ عظيمُ الثواب.
ولذلك صلاة العشاء والفجر أثقل الصلوات على المنافقين كما ثبت في الصحيحين، فالمبادرة إليهما علامة على الإيمان: أولًا: لثقلهما على النفس، وثانيًا: لأن الرياء فيهما أضعف، خاصة في الزمان السابق، فرؤية الإنسان في العشاء وفي الفجر أقل من رؤيته في بقية الصلوات، فالداعي إلى الرياء أضعف، فلا يجعل العبد يقوم إليهما إلا الإخلاص والإيمان.

-      وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، فإذا صليت العشاء في جماعة: صَحَّت صلاتك، ونلت ثواب القيام بالواجب، والذي هو أداء الصلاة المفروضة في المسجد للرجال، ونلت ثواب الجماعة، ونلت ثواب قيام نصف الليل.
ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كمن قام الليل كله، من أوله إلى آخره.
فإذا صليت العشاء والفجر في جماعة نلت صحة الصلاة، وثواب الواجب، وثواب الجماعة، وثواب قيام الليل كله، فإذا أنعم الله عليك وقمت فعلًا من الليل فهذا ثواب آخر يضاف إلى هذه الأجور الكريمة.
والحديث الذي دل على هذا عند مسلم في "الصحيح".

والمؤمن حتى لو لم يعلم أن أداء صلاة العشاء والفجر في جماعة واجب عليه يكفيه أن يسمع هذا الحديث ليحرص أيما حرص على أن يصلي العشاء في جماعة والفجر في جماعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ومالي وللدنيا

إذا جلست في غرفتك وحدك ...

إني براء من الأهواء وما ولدت...

النظر إلى الحرام

غربة أهل الاستقامة - للشيخ محمد بن هادي المدخلي

سبحان الله !! طالب علم ليس له ورد بالليل ..عشنا وشفنا - للشيخ رسلان