الاثنين، 12 سبتمبر 2022

شرح أحاديث النهي عن التشبيك لما كان قاصدا الصلاة في المسجد أو ينتظر الصلاة - الشيخ سليمان الرحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

شرح حديث

 

1439هـ

 

للتحميل أو الاستماع



المراجعة


[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إذا توضّأ أحدكم في بيتِهِ، ثم أتى المسجدَ، كان في الصلاةِ حتى يرجع، فلا يَقُل هكذا -وشَبَّكَ بين أصابعه- ).

رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وقال: "صحيح على شرطهما". وفيما قاله نظر.

 

-     هذا الحديث صححه الشيخ ناصر.

-     وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إذا توضّأ أحدكم في بيتِهِ، ثم أتى المسجدَ، كان في الصلاةِ حتى يرجع ): وقد دل على ذلك أحاديث كثيرة، أن المسلم منذ أن يخرج من بيته متطهرا قاصدا المسجد فهو في صلاة، فيجري عليه أجر الصلاة، فإذا دخل المسجد وصلى تحية المسجد أو السنة الراتبة إن كان ما صلاها في البيت وقعد فإنه كالقائم الذي يصلي قائما، يُجرى عليه أجر الذي يصلي قائما، ما دام ينتظر الصلاة،

فلو فرضنا أنه صلى العصر ثم قعد في المسجد ينتظر صلاة المغرب فإنه يُجرى عليه أجر الذي يصلي قائما، يعني أنت يا عبد الله إذا جئت من بيتك لصلاة العصر، جئت من البيت، منذ أن تخرج من البيت يُجري عليك ربنا الكريم أجر الصلاة، فإذا دخلت المسجد وقعدت في المسجد تنتظر الصلاة يجرى عليك أجر المصلي القائم، فإذا صليت كذلك، فإذا انتظرت وأنت تريد أن تبقى لصلاة المغرب فإن ربنا الكريم يجري عليك أجر الذي يصلي قائما كأنك قائم تصلي ما بين العصر إلى المغرب، ثم إذا صليت المغرب كذلك، فإن مَنَّ الله عليك فجلست تنتظر صلاة العشاء فإن الله يُجري عليك أجر الذي يصلي قائما إلى أن تصلي العشاء، فإذا خرجت من المسجد فإن الله يجري عليك أجر الصلاة حتى تصل إلى بيتك، وهذا يجعل المسلم يتعلق قلبه بالمساجد، لينال هذا الثواب العظيم.

-     قال: ( فلا يَقُل هكذا -وشبك بين أصابعه- ):

التشبيك بين الأصابع إدخال بعضها في بعض، إدخال أصابع اليدين في بعضهما، يدخل أصابع اليد اليمنى في أصابع اليد اليسرى، هذا هو التشبيك،

-     وفي هذا نهي لمن قصد المسجد أن يشبّك بين أصابعه، وهو في خارج المسجد ماشي إلى المسجد مَنْهِي عن أن يشبك أصابعه.

-     والعلة في هذا أنه في صلاة، وهو في الشارع في صلاة، وهو يمشي في صلاة، ربما يتحدث مع جاره، هو في صلاة، فهو منهي عن أن يشبّك بين أصابعه،

-     وقد ذهب جمهور العلماء الحنفية والشافعية والحنابلة إلى كراهية أو كراهة أن يشبك قاصِدُ المسجد بين أصابعه، أن هذا مكروه، وذهب المالكية إلى عدم كراهية هذا، والراجح ما عليه الجمهور أن من قَصَدَ المسجد منهيّ عن أن يشبّك بين أصابعه.

-     قال المنذري: "والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما"، وفيما قاله نظر": أي أنه صحيح لكنه ليس على شرط الشيخين.

 [صحيح لغيره] وعن كعب بن عُجْرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( إذا توضأ أحدُكم ثم خرجَ عامداً إلى الصلاةِ، فلا يشبِّكَنَّ بين يديه، فإنه في صلاةٍ ).

رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، والترمذي -واللفظ له- من رواية سعيد المقبري عن رجل عن كعب بن عُجرة، وابن ماجه من رواية سعيد المقبري أيضاً عن كعب، وأسقط الرجل المبهَم.

 

هذا الحديث حكم عليه الشيخ الألباني بأنه صحيح لغيره، وعن كعب بن عُجْرةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة ) قاصدا إلى الصلاة، يعني يريد المسجد، ( فلا يشبّكن بين يديه فإنه في صلاة )، وهذا فيه ما تقدم، أن من قصد المسجد يريد الصلاة منهيّ عن أن يشبك بين يديه، فلا يشبّك أصابعه في بعضها.

 

وفي رواية لأحمد قال: "دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجدِ، وقد شبّكتُ بين أصابعي، فقال: ( يا كعب، إذا كنتَ في المسجد فلا تُشبّكَنَّ بين أصابعِك، فأنتَ في صلاةٍ ما انتظرتَ الصلاة ) ".

ورواه ابن حبان في "صحيحه" بنحو هذه.


-     "دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجدِ، وقد شبّكتُ بين أصابعي": هذه الرواية شبّك بين أصابعه وهو في المسجد، الحديثان الأولان: لقاصد المسجد، أما هنا لمن كان في المسجد

-     فقال: ( يا كعب، إذا كنتَ في المسجد فلا تُشبّكَنَّ بين أصابعِك، فأنتَ في صلاةٍ ما انتظرتَ الصلاة ): فدل هذا يا اخوة على أن الذي في المسجد وينتظر الصلاة مَنهيٌّ عن تشبيك أصابعه،

يعني: أنت أتيت ودخلت المسجد، صليت تحية المسجد وجلست، تنتظر الصلاة، مَنْهِي عن أن تشبّك بين أصابعك

صليت العصر وجلست في المسجد تنتظر صلاة المغرب، في نيتك انتظار صلاة المغرب، أنت منهي عن أن تشبك بين أصابعك ما دمت تنتظر الصلاة.

-     وقد ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة إلى كراهية التشبيك في المسجد، ما دام ينتظر الصلاة، وذهب المالكية إلى الجواز وعدم الكراهة.

-     ويُفهم من هذه الأحاديث أن تشبيك الأصابع في الصلاة منهي عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّل، قال: ( فأنت في صلاة )، فكيف إذا كان في الصلاة حقيقة،

وقد اتفق العلماء حتى المالكية هنا على أن التشبيك في الصلاة منهي عنه، لكن جمهورهم على أن هذا للكراهة، وذهب بعض الحنفية إلى أنه للتحريم، وهذا عندي أظهر والله أعلم، أن التشبيك في الصلاة محرم، وإن كان جمهور الفقهاء على أنه مكروه، وإنما قال بعض الحنفية إنه مكروه كراهية تحريم،

لأن ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما يدل على التحريم، فإن علة النهي عن التشبيك، اختلف فيها العلماء:

فقال بعض أهل العلم: لأن التشبيك من أفعال الشيطان، لكن الحديث الوارد في هذا ضعيف، أيضا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شبّك بين أصابعه، فهذا التعليل غير صحيح.

وقال بعض أهل العلم: لأن التشبيك يدعو إلى الكسل والنوم، وهذا أيضا ضعيف بعيد.

وقال بعض أهل العلم: لأن التشبيك في حال العبادة تشبّه باليهود في حال عبادتهم، فقد سُئِل ابن عمر رضي الله عنهما عن الرجل يصلي وهو مشبّك يديه، فقال: "تلك صلاة المغضوب عليهم"، رواه أبو داود وصححه الألباني.

فابن عمر سُئل عن صلاة الرجل وهو مشبك أصابعه، وهو يصلي، فقال تلك صلاة المغضوب عليهم، يعني تلك صلاة اليهود، هكذا يفعلون في عبادتهم، ولا شك أن التشبه باليهود في العبادة حرام، ولذلك يظهر والله أعلم أن تشبيك الأصابع حال الصلاة محرم، وحال قصد الصلاة أو انتظار الصلاة مكروه.

وأنا لم أقف على من قال إنه حرام أعني حال قصد الصلاة أو انتظار الصلاة، أما حال الصلاة فقلت لكم إن بعض الأحناف نصوا على أنه حرام وهذا عندي أقرب والله أعلم.

 

-     فهذه الأحاديث تدل على أن التشبيك في الصلاة منهي عنه، سواء كان الإنسان في الصلاة حكماً أو حقيقةً، متى يكون في الصلاة حكما؟ إذا كان قاصدا أو كان ينتظر، ومتى يكون حقيقة؟ إذا كان يصلي.

-     أما إذا فرغ من الصلاة فإنه يجوز له أن يشبّك بين أصابعه ولو في المسجد.

فرغ من الصلاة ويريد أن يخرج لكن جالس في المسجد ثم يريد أن يخرج ما ينتظر الصلاة التالية، يجوز له أن يشبك بين أصابعه، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، وشبّك بين أصابعه، هذا معروف في حديث ذي اليدين، لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من ركعتين، نسيانا، ثم قام إلى ناحية المسجد، واتكأ على خشبة معروضة في المسجد، وشبك بين أصابعه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا شبك بين أصابعه وهو في المسجد، لأنه يظن أنه انتهى من الصلاة، سلم من ركعتين، الصلاة رباعية إما العصر أو الظهر، سلم من ركعتين ظانا أنه انتهى من الصلاة سهوا منه صلى الله عليه وسلم، فشبّك بين أصابعه، فدل ذلك على أن من قضى صلاته يجوز له أن يشبك بين أصابعه ولو كان في المسجد.

هذا الذي يظهر والله أعلم.


__________________________________________________


 

مراجعة تمت في مقدمة الدرس اللاحق:

 

-     قلنا ان التشبيك هو إدخال أصابع إحدى اليدين في الأخرى، أن يُدخل أصابع إحدى اليدين في الأخرى.

-     وتحصل عندنا أن التشبيك إن كان في الصلاة الحقيقية حيث يصلي المسلم فهذا حرام لأنه تشبه باليهود في صلاتهم.

-     وإن كان في الصلاة الحُكمية وذلك إذا كان الانسان قاصدا الصلاة، توضأ مثلا في بيته ثم خرج قاصدا الصلاة فهو في صلاة حكمًا كما سيأتينا اليوم إن شاء الله عز وجل، وكذلك إذا كان ينتظر الصلاة قبل إقامة الصلاة أو كان ينتظر الصلاة بعد الصلاة.

فالتشبيك في الصلاة الحكمية مكروه، وذلك أن الصلاة الحكمية أخف من الصلاة الحقيقية؛ ولذلك يجوز فيها الكلام والاكل والشـرب وغير ذلك من المباحات، فهي أخف من الصلاة الحقيقية.

-     ويستثنى من الكراهة هنا التشبيك من أجل التعليم والبيان، فإنه يجوز، لو كان الانسان يمشي من بيته مع أخيه وذكر لأخيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان ) وشبك بين أصابعه تعليمًا وبيانًا، فإن هذا جائز ولا حرج فيه وليس مكروها.

-     وإن كان المصلي قد فرغ من صلاة الفريضة وبقي في المسجد لكنه يريد أن يخرج منه قبل الفريضة التالية فإنه يجوز له أن يشبك أصابعه ولا حرج في هذا.



السبت، 27 أغسطس 2022

شرح أحاديث في الترهيب من إنشاد الضالة في المسجد - الشيخ سليمان الرحيلي

 بسم الله الرحمن الرحيم


شرح حديث

 

1439هـ

 

للتحميل أو الاستماع



[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( مَن سَمعَ رجلاً يَنْشُدُ ضالةً في المسجدِ فلْيقُلْ: لا ردَّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تُبْنَ لهذا ).

رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم.

- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سمع رجلا يَنْشُد ): أي يطلب برَفْعِ صَوْت.

- ( ضالة ): الضالة في الأصل هي الضائع المفقود من الحيوان، ويُلْحَق بالحيوان في الحكم كل ما يُعتَنَى به عند فَقْدِه، كالنقود، والكتب، ونحو ذلك؛ فإن الحكمة واحدة، من نَشَدَ عن الجمل في المسجد مثله من نَشَدَ عن الكتاب في المسجد، أو نشد عن المال في المسجد، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا.

- ( فليقل: لا ردها الله عليك ): هذا يقال بصوت مسموع، عقوبةً له وزجراً لغيره، ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فإن الإنسان إذا رأى أنه يترتب على قولها بصوت مسموع مفسدة يقولها في نفسه، بحيث يُسْمِع نفسه، يعني الأصل لو جاءنا شخص في المسجد وقال: من رأى الجمل الأحمر؟ من رأى البقرة الصفراء؟ أن نقول: "لا ردها الله عليك"، عقوبة له وزجرا لغيره، لكن إذا كان سيترتب على ذلك مفسدة، مثلا رأينا عليه الجهل، ولو قلنا "لا ردها الله عليك" لن يعود إلى المسجد ولن يدخل المسجد فهذه مفسدة عظيمة، فنقول سرا "لا ردها الله عليك"، أو مثلا رأينا فيه من الجهل أنا لو قلنا "لا ردها الله عليك" قال وأنتم لا رد الله أولادكم وفعل بكم وفعل، وأخذ يرفع صوته في المسجد، فلا نرفع أصواتنا، وإنما نقول سرا "لا ردها الله عليك".

- ( فإن المساجد لم تُبن لهذا ): هل هي من تمام القول أو تعليل للقول؟ الأمر محتمل للوجهين، .. .

- المساجد إنما بُنيت لتُعمر بذكر الله، وبالصلاة، ولم تُبن للسؤال عن الضالة، والبحث عن الأموال، ويدخل في هذا الأوراق التي تُكتب داخل المسجد، يكتب ورقة ويعلقها في جَدر المسجد، فقدت كتابا فقدت مفتاحا، فقدت إقامة، هذا لا يجوز.

- أما في خارج المسجد ما فيه بأس، أن يكتب الإنسان ورقة على باب المسجد من الخارج أو حائط المسجد من الخارج، فهذا لا بأس به، أما في داخل المسجد فلا يجوز بأي صورة من الصور، فإن المساجد لم تُبن لهذا.


[صحيح] وعنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( إذا رأيتُمْ مَن يَبيعُ أو يَبْتاعُ في المسجِد فقولوا: لا أرْبَحَ الله تجارتَك، وإذا رأيتُم من يَنشُد [فيه] ضالّةً فقولوا: لا [ردّ] الله عليك ).

رواه الترمذي وقال: "حديث حسن غريب"، والنسائي وابن خزيمة والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم". ورواه ابن حبان في "صحيحه" بنحوه بالشطر الأول.

هذا الحديث حكم عليه الشيخ الألباني بأنه صحيح.

-     "وعنه": أي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا، لا أرْبَحَ الله تجارتَك، وإذا رأيتُم من يَنشُد [فيه] ضالّةً فقولوا: لا [ردّ] الله عليك".

-     ( من ينشد [فيه] ): (فيه)، هذه لا بد منها، لفظ الحديث عند الترمذي: (ينشد فيه ضالة).

-     ( فقولوا: لا ردّ الله عليك ): ليس: لا ردها.

-     "رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب": لم يقل: حديث حسن صحيح، بل: حديث حسن غريب

-     "والنسائي": أي في الكبرى، لم يروه في الصغرى

-     "وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم": ووافقه الذهبي.

-     "ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه بالشطر الأول": لفظه عند ابن حبان: ( إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ).

 

-     قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع ): يبيع: هو البيع المعروف، يبتاع: يعني يشتري.

-     ( في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك): دعاء عليه بأن لا يربح، والأصل أن يُقال هذا جهرا كما قلنا، إلا إذا ترتب على القول مفسدة، فإنا نقول ذلك سرا.

-     وفي هذا دليل على أن البيع في المسجد حرام، فإنه لو لم يكن حرامًا لما استحق فاعله هذا الدعاء.

وما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن البيع في المسجد مكروه مرجوح، بل الراجح رُجْحانا بَيّنًا أن البيع في المسجد حرام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع في المسجد.

-     ( وإذا رأيتم من يَنْشُد فيه ) أي في المسجد ( ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك )، فإما أن نقول لا ردها الله عليك أو لا رَدَّ الله عليك.

-     وهذا يدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن المساجد لم تُبن لهذا ) تعليل وليس من تمام الكلام، فإنه لم يرد هنا، فدل على أن القول الذي أُمرنا أن نقوله هو: "لا رد الله عليك" أو "لا ردها الله عليك"، وعلة هذا القول أن المساجد لم تُبن لهذا.


[صحيح] وعن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه: أن رجلاً نَشَد في المسجد، فقال: مَن دعا إلى الجملِ الأحمرِ؟ فقال رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا وَجَدتَ، إنما بُنيَتِ المساجدُ لما بُنِيتْ له".

رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.

 

-     هذا الحديث الصحيح في صحيح مسلم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمرنا به، فإن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، من وجد الجمل الأحمر، من نادى على الجمل الأحمر؟

-     فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( لا وجدتَ ): وهذا دليل على أن القول ليس توقيفيا، بل يقول الإنسان ما يَردّ به عليه، لا ردها االله عليك، لا رد الله عليك، لا وجدت، ما وجدتها، أو نحو ذلك، يعني ليس توقيفيا.

-     ( إنما بُنيَتِ المساجدُ لما بُنِيتْ له ): لإقامة الصلاة وذكر الله سبحانه وتعالى.

-     فدل ذلك على أن نُشْدان الضالة والضائعات في المسجد لا يجوز، وأنه حرام، وأن فيه أذية للمسلمين، الذين يصلون في المسجد.

الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

شرح أحاديث في الترهيب من البصاق في المسجد وإلى القبلة - الشيخ سليمان الرحيلي

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

شرح حديث

 

1439هـ

 

للتحميل أو الاستماع




[صحيح] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يوماً، إذ رأى نُخامَةً في قِبْلةِ المسجدِ، فتَغَيَّظَ على الناسِ، ثم حَكَّها، -قال: وأحسبُهُ قال:- فدعا بِزَعفَرانٍ فَلَطَخَهُ به، وقال: ( إنّ الله عز وجل قِبَلَ وَجه أحدكم إذا صلّى، فلا يَبْصُق بين يديه ).

رواه البخاري ومسلم وأبو داود، واللفظ له.

 

-    هذا الحديث في غاية الصحة.

-    بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوما: في مسجده.

-    النخامة: ما خرج من الحلق، وهو يشبه الزكام، والبصاق: ما خرج من الفم.

-    في قبلة المسجد: يعني في الجَدْر الذي في قبلة المسجد.

-    فتغيّظ على الناس: أي ظهر عليه الغضب صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا لحق الله سبحانه وتعالى، وإلا فهو أَلْيَنُ الناس وأعظم الناس صَفْحًا وأعظم الناس بِشْرًا صلى الله عليه وسلم، لكن إذا انتُهكت محارم الله غضب صلى الله عليه وسلم.

ولذلك الذي يغضب من أجل دين الله لكن لا يتعدى الشرع هذا محمود، فالعلماء الذين إذا تكلموا عن البدعة اشتد كلامهم وظهر عليهم الحماس وظهر عليهم كما يقولون الانفعال، هذا دليل على قوة إيمانهم، ودليل على صحة عملهم، غفر الله للجميع ورحم الله الجميع، فلا يقال هؤلاء متشددون، هؤلاء كذا.

فالغضب إذا اُنْتهكت محارم الله هذا أمر محمود، هنا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى النُّخامة في قبلة المسجد تَغَيّظ وظهر على وجهه الغضب، بل لَامَ لَوْمًا كما سيأتي إن شاء الله.

-    ثم حكّها: أي حكّ النخامة بيده الشريفة بشيء، حكّها وأزالها.

-    فدعا بِزَعفَرانٍ: فذهب شاب إلى بيته وجاء بزعفران؛ لأن الزعفران له لون حَسَن ورائحة طيبة، فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بحكها، حكها وأزالها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو فوق ذلك، وهو جعل ما يُسْتَحْسَن مكانها، وهذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

-    فَلَطَخَهُ به، وقال: ( إنّ الله عز وجل قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلّى ): المصلي يناجي الله سبحانه وتعالى، وإن ربنا سبحانه وتعالى يَنْصِبُ وجهه للمصلي إذا صلى، كما ثبت بذلك الحديث الصحيح، فيكون الله عز وجل قِبَلَ وجهه.

وهذا على ظاهره كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: " قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهه فلا يبصق قِبَلَ وجهه )، قال: حق - لا شك في هذا، صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم - على ظاهره، وهو سبحانه فوق عرشه، وهو قِبَل وجه المصلي ".

وقال أيضا: " العبد إذا قام يصلي فإنه يستقبل ربه، وهو سبحانه فوقه ".

وهذا لا إشكال فيه:

فأولاً: لله المثل الأعلى، لو كان الإنسان يناجي القمر يتحدث إلى القمر فإنه يتوجه إلى القمر ويكون قِبَلَ وجهه وهو فوقه.

ثانياً: الله عز وجل يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فلا يُشْتَرط أن يكون الأمر ممكنا من المخلوقات حتى نُثْبِتَه لله عز وجل.

-    وقد احتجّ بعض أهل البدع بهذا الحديث على قول مُبتَدَع قبيح، وهو: زعمهم أن الله في كل مكان، قالوا: هذا الحديث يدل على أن الله في كل مكان، لماذا؟ قالوا: لأنه في الحديث أنه يكون قِبَلَ وجه المصلي، إذن يكون في كل مكان.

وما أجمل كلام الحافظ ابن عبد البر في الرد عليهم، حيث قال: " هذا جهل من قائله، لأن قوله في الحديث: يبصق تحت قدمه أو عن يساره يَنْقض ما أَصَّلُوه ".

النبي نهى عن التَّفْل إلى جهة القبلة، أليس الأسفل مكان؟، النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبصق تحت قدمه وأسفل منه، فهذا يُبْطل قولهم ن الله عز وجل في كل مكان.

وهذا من جميل الكلام، ومن جميل الرد لكلام أهل البدع.

-    ( فلا يَبْصق بين يديه )، قلنا: البصاق هو ما يخرج من الفم، والنخامة ما يخرج من الحلق.

وهذا نهي، والنهي يدل على التحريم، ففي هذا حرمة أن يبصق المصلي تجاه القبلة، سواء أصاب الحائط أو أصاب الأرض أو تَفَلَ في منديل، كيف هذا؟ يجعل المنديل بعيدا عنه ويتفل فيه، هذا تفل تجاه القبلة، وسيأتينا المشروع في التفل في المنديل كيف يكون إن شاء الله عز وجل.

وذلك لحق الله سبحانه وتعالى

إذن يحرم البصاق من المصلي جهة القبلة، لحق الله سبحانه وتعالى.

 

[صحيح] وروى ابن ماجه عن القاسم بن مِهْران -وهو مجهول- عن أبي رافعٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نُخامةً في قِبلةِ المسجد، فأقْبَل على الناسِ، فقال: ( ما بالُ أحدِكم يقومُ مُسْتَقْبِلَ ربه فيتنخَّعُ أمامَه؟! أيحبُّ أحدُكم أنْ يُسْتَقْبَلَ فيُتَنخَّع في وجهه؟! إذا بصَقَ أحدكم فليبصق عن شمالِهِ، أو ليَتْفُل هكذا في ثوبه ). ثم أراني إسماعيل -يعني ابن عُليَّةَ- يبصق في ثوبه ثم يَدْلُكُه.

 

-    القاسم بن مهران: وهو مجهول: وهذا عجيب من المنذري لكن كما قلنا هو يروي من حفظه، ولذلك كثير من أهل العلم يفضّلون التدريس والتحديث من الكتاب لأنه أضبط.

فإن القاسم معروف ثقة، وقد روى له مسلم في الصحيح، بل إن مسلما في الصحيح روى هذا الحديث عنه، فهذا وَهْمٌ من الحافظ المنذري رحمه الله.

-    مستقبل ربه: أي يصلي مستقبل القبلة كما تقدم معنا.

-    فيَتَنَخَّعُ أمامه: النخاعة هي النخامة تخرج من الحلق.

-    أيحبُّ أحدُكم أنْ يُستقْبلَ فيُتَنخَّعَ في وجهه؟!: يعني أيحب أحدكم أن يكون مُواجِهًا لإنسان فيُخْرج النخامة في وجهه؟ لا شك أن الإنسان لا يحب هذا ويستقذر هذا ويستقبح هذا، وربما لو لقي أحدا لقال: فلان قليل أدب يقف أمامي ويتفل أو يتنخم.

-    إذا بصَقَ أحدكم: أي في الصلاة لأن هذا السياق.

-    فليبصق عن شمالِهِ: أي عن شماله عن تحت رجله اليسرى، كما سيأتي إن شاء الله وسنبين الحكمة.

-    ( أو ليتفُل هكذا في ثوبه ). ثم أراني إسماعيل -يعني ابن عُليَّةَ- يبصق في ثوبه ثم يَدْلُكُه:

كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رَوَوْه، يبصق في ثوبه هكذا، ليس [من بعيد، بل][1] يضع الثوب على فمه، ويبصق في ثوبه، ويَدْلِك الثوب حتى يُذْهب عنه الأذى، ما يكون الأذى في الثوب.

-    وكل هذا في الصلاة، وهو دليل على أن الحركة من أجل مصلحة الصلاة لا تضر الصلاة.

-    فإذا بَدَرَ الإنسان البُصاق ووجد الحاجة إلى أن يَبْصق أو أن يتنخم، فلا يخلو من حالين: إما أن يكتم هذا، وهذا سيؤثر على خشوعه في الصلاة، يصبح قريبًا ممن يُدافِع الأخبثين، لا يقول قولا صحيحا، لأنه في فمه، ولا يتحمّل ذلك، وإما أن يَتْفُلَ، أُرْشِدَ إلى أن يتفل، ما دام وجد الحاجة وبَدَرَتْه الحاجة فليتفل.

ولكن كيف يَتْفُل؟ إما أن يَتْفُلَ عن يساره تحت قدمه، وسأبين متى يكون هذا إن شاء الله في الحديث التالي، وإما أن يَتْفُلَ في ثوبه بأن يجعل ثوبه على فمه ويَتْفُلَ فيه ثم يَطْبِق الثوب ثم يَفْرُك الثوب بالثوب -ليس بيده- حتى يُزيل هذا الأذى.

 

[حسن صحيح] وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تُعْجِبُه العَرَاجِين أنْ يُمسِكَها بيدِه، فدخل المسجد ذاتَ يوم، وفي يده واحدٌ منها، فرأى نُخاماتٍ في قبلة المسجد، فحتَّهُن حتى أنْقاهُنَّ، ثم أقبلَ على الناسِ مُغضَباً فقال: ( أيحب أحدُكم أنْ يستقبِلَه رجلٌ فيَبْصُقَ في وجهه؟! إنَّ أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه، والملَكُ عن يمينه، فلا يبصقْ بين يديه، ولا عن يمينه ) الحديث.

رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وفي رواية له بنحوه، إلا أنه قال فيه: ( فإنَّ الله عز وجل بين أيديكم في صلاتِكم، فلا تُوَجِّهُوا شيئاً من الأذى بين أيديكم ) الحديث.

وبَوَّبَ عليه ابن خزيمة: "باب الزجر عن توجيه جميع ما يقع عليه اسم أذى تلقاء القبلة في الصلاةِ".


-    قال الحافظ المنذري: رواه ابن خزيمة في صحيحه: أي بهذا اللفظ، ورواه الحاكم بهذا اللفظ أيضا وقال: صحيح على شرط مسلم، وبقريب منه رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، ورواه ابن خزيمة أيضا بمعناه، رواه ابن خزيمة بهذا اللفظ ورواه أيضا بمعناه، ورواه البخاري ومسلم بمعناه، أي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، الجميع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقد حكم الشيخ ناصر رحمه الله على هذا الحديث بأنه حسن صحيح، ومراده بقوله "حسن صحيح": أنه حسن بهذا الإسناد المذكور صحيح باعتبار الطرق.

-    العَرَاجِين: جمع عُرْجُون، وهو العود الأصفر من النخل، الذي تكون فيه الشَّماريخ التي يكون فيها الرُّطَبُ والبَلَح.

العرجون: عود أصفر من النخل هو الصّلة بين النخل والشماريخ، تكون في أطرافه الشماريخ التي يظهر فيها البلح والرطب.

وسُمّيَ عُرْجُونا لانْعِراجِهِ، لأنه يَنْعَطِف، لأنه متعلق بالنخلة، وإذا جاء فيه البلح والرطب ثَقُلَ حتى انحنى، فيسمى عرجونا، فإذا قَدُمَ انحنى جدا، ولذلك يقال عن الانحناء الشديد: كالعرجون القديم.

هذا هو العرجون

وكان -النبي صلى الله عليه وسلم- تُعْجِبُه العَرَاجِين أنْ يُمسِكَها بيدِه: فيأخذ معه عرجونا، وهذا بحكم البشرية لا بحكم النبوة، يعني ما يقال: يُسَن للمؤمن أن يأخذ معه عرجونا، الإنسان بطبعه بحكم البشرية يحب بعض الأشياء، بعض الناس تجده يحمل القلم معه دائما، بعض الناس يحمل المسواك، بحكم البشرية، فلا يأتينا غدا الجمع من الإخوة وكل واحد معه عرجون، هذا ليس من السنة إنما هو أمر جائز مباح وفعله النبي صلى الله عليه وسلم بحكم البشرية لا بحكم النبوة والتشريع.

-    فدخل المسجد ذاتَ يوم، وفي يده واحدٌ منها، في يده عرجون، فرأى نُخاماتٍ في قبلة المسجد، فحتَّهُن حتى أنْقاهُنَّ، حتى ذهبت تماما.

-    ثم أقبلَ على الناسِ مُغضَباً: ظهر الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم.

-    فقال: ( أيحب أحدُكم أنْ يستقبِلَه رجلٌ فيَبْصُقَ في وجهه؟! إنَّ أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه، والملَكُ عن يمينه ):

المقصود بالـمَلَك هنا هو الذي يكتب.

والإنسان معه ملكان، مَلَكٌ يكتب الحسنات وهو عن اليمين، وملك يكتب السيئات وهو عن الشمال.

هنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( والملَك عن يمينه )، فلماذا قال: والملَك عن يمينه؟

- قال بعض أهل العلم: لأن الصلاة خير كلها، فليس فيها إلا حسنات، فيكون الحاضر هنا الملَك عن اليمين، لأن الصلاة خير كلها.

وقال بعض أهل العلم: هذا ينفيه الواقع، فإن بعض الناس قد يفعل الحرام وهو يصلي، مثل أن يُرائي، أو يُسابق الإمام، فكيف يقال هذا؟

- فقالوا: المقصود أن الصلاة تكثر فيها الحسنات وتقل فيها السيئات، فهي إن وجدت فهي قليلة، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن وُجدت فيها سيئات فهي قليلة، فمن هنا يَتَنَحّى الـمَلك الذي يكتب السيئات عن اليسار قليلا، هو موجود لكنه يبتعد قليلا، يتنحّى عن اليسار قليلا.

- وقال بعض العلماء: حال الصلاة يكون الملكان عن اليمين، لشرف اليمين في الصلاة.

قالوا: يمين الصف، يمين الإمام أفضل من يسار الإمام، ففي حال الصلاة الملك الذي عن اليسار يأتي عن اليمين، من أجل شرف اليمين في الصلاة.

وعلى كل حال فنحن نعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الـمَلَك عن اليمين في حال الصلاة وليس عن اليسار، والسبب ما بُيِّن بالنص، لكن اجتهد فيه العلماء، والثالث عندي هو أوجه ما قيل، أن الملك في اليسار يقف حال الصلاة على اليمين لشرف اليمين في الصلاة.

-    ( فلا يبصقْ بين يديه ): أي تجاه القبلة، وهذا لحق الله سبحانه وتعالى.

-    ( ولا عن يمينه ): وهذا لحق الملَك.

-    ففيه تحريم البصاق إلى جهة القبلة وقد تقدم، وتحريم البصاق إلى جهة اليمين حال الصلاة لحق الملَك.

-    وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولكن عن يساره وتحت قدمه اليسرى ):

لماذا يتفل عن يساره؟ لأنه لا يوجد الملك.

( وتحت قدمه اليسرى ): يتفل ثم يضع عليها قدمه اليسرى؛ ليدفنها بقدمه اليسرى.

قال العلماء: هذا عندما كانت المساجد فيها الحصباء والرمل والتراب، حيث تُدفن، أما اليوم حيث وُجِد البلاط والفُرُش فإنه لا يجوز التَّفل في الأرض؛ لأنه لا يمكن دفنها، ويجب على من تفل في أرض المسجد أن يدفنها أو يخرجها، فهذا يكون إذا كان يمكن دفنها، إذا كان الإنسان في مسجد بحيث يمكنه أن يدفن تفله أو نخامته إذا تفل أو تنخّم فإن له أن يتفل عن يساره تحت قدمه اليسرى.

-    قال صلى الله عليه وسلم في الحديث أيضا: ( فإن عَجِلَت به بَادِرَة فليَقُل هكذا )، وتَفَل في ثوبه وَرَدّ بعضه على بعض.

( فليقل هكذا ): يعني فليجعل ثوبه على فمه، " وردّ بعضه على بعض ": قال العلماء: من أجل أن يَفْرُكَه حتى يزول الأذى.

 

[صحيح] وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتانا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجدنا، وفي يده عُرْجُون، فرأى في قِبلةِ المسجد نُخامةً، فأَقْبَلَ عليها، فَحَتَّها بالعُرجون، ثم قال: ( أَيُّكم يحبُّ أنْ يُعرِضَ الله عنه؟! إنّ أحدكم إذا قامَ يصلّي، فإنَّ الله قِبَلَ وجهه، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، وليبْصُقَنَّ عن يسارِه تحت رجلِهِ اليسرى، فإن عَجِلَتْ به بادِرَةٌ فليتفُلْ بثوبه هكذا، ووضعه على فِيه، ثم دَلَكَه. . . ) الحديث.

رواه أبو داود وغيره.

 

-    قال المنذري رحمه الله: رواه أبو داود وغيره:

والحديث رواه مسلم.

قلت: لعل المنذري رحمه الله أراد اللفظ، فعزاه لأبي داود، لأن هذا اللفظ عند أبي داود، وإن كانت عادة المنذري أن يقول في مثل هذا: " رواه مسلم وأبو داود واللفظ له "، لكن لعله أراد اللفظ، أو لعل رواية مسلم غابت عنه، كما قلنا الحافظ المنذري يروي من حفظه، ويُـمْلي من حفظه، فلعل رواية الإمام مسلم قد غابت عنه.

-    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتانا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجدنا: أي في مسجد جابر وقومه، ولذلك جاء في بعض الروايات: " في مسجده"، في مسجد جابر رضي الله عنه، أي في مسجد جابر وقومه.

كما قلنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة ببناء المساجد في الدُّور، فكان لجابر ولقومه مسجد، فجاءهم النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم مع كونه النبي صلى الله عليه وسلم وقائد الأمة كان يخالط الناس، وكان يزور أصحابه، فيذهب إلى هؤلاء في مسجدهم، وإلى هؤلاء في مسجدهم، وهذه سنة، فيسن لطالب العلم إذا كان في البلد أن يزور أهل المسجد في حَيِّهم ما لم يوجد مانع كأن يكون مسجد أهل بدعة أو نحو ذلك فهذا له تصرف آخر.

-    في قبلة المسجد: في الجدار الذي في القبلة.

-    فأقبل عليها، فحتَّها بالعُرجون: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأخذ في يده عرجونا.

-    ( أَيُّكم يحبُّ أنْ يُعرِضَ الله عنه؟! ): وفي هذا دليل على أن تَفْلَ المصلي تجاه القبلة سبب لأن يُعرض الله عز وجل عن المصلي.

-    ( إنّ أحدكم إذا قامَ يصلّي، فإنَّ الله قِبَلَ وجهه، فلا يبصقنَّ قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، وليبْصقنَّ عن يسارِه تحت رجلِهِ اليسرى، فإن عجِلَتْ به بادرةٌ ْ): عجلت به بادرة: أي حّدَّتْهُ، فلا بد من التفل، وجد هذا في حلقه، وجد هذا في فمه.

-    ( فليتفُلْ بثوبه هكذا، ووضعه على فِيهِ ): وضع الثوب على فِيه، إذا معك منديل لا تفعل كما يفعل بعض الناس اليوم: يضع المنديل [بعيدا][2]، لا، هذا ما فعل المشروع، هذا تفل تجاه القبلة، بل ضع المنديل على فمك، بحيث يخرج التفل أو النخامة من فمك إلى المنديل، من فمك إلى طرف الثوب.

-    ثم دَلَكَه: يعني رد بعضه على بعض ودلكه حتى يُزيل الأذى عن الثوب.

 

-    هذا الحديث فيه فائدة: وهي أنه يجوز التَّفْلُ في المسجد، ما هو حرام أن تتفل في المسجد أو تتفل وأنت تصلي، وإنما يجوز هذا جهة الشمال تحت الرجل اليسرى إذا كان يمكن دفن النخامة تحت الرجل في المسجد، أو في الثوب بوضعه على الفم.

 


 

[صحيح] وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( من تَفَلَ تُـجَاه القِبلة، جاء يومَ القيامةِ وتَفلُه بين عينَيه ... ) .

رواه أبو داود، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما".

 

-    هذا الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه فيه وعيد شديد.

-    ( تَفَلَ ): بصق

-    ( تُـجاه القبلة ): لاحظوا هذا مطلق غير مقيد، ( من تَفَلَ تُـجَاه القِبلة )، ما قُيّد بأنه في الصلاة ولا في المسجد، وإنما ذُكر وصفٌ، وهو التفل تجاه القبلة

-    ( جاء يوم القيامة وتَفلُه بين عينه ): كل ما تفل تجاه القبلة، التفل هذا كله يأتي يوم القيامة وهذا التفل بين عينيه، فضيحة له بين الخلائق، يُفضح يوم القيامة والعياذ بالله.

بعض الناس من قبح فعلهم أو شدة جرمهم شرعا يُفْضَحون يوم القيامة بفعلهم، فمن الناس من يُنصب له لواء الغدر، وهؤلاء الذين يغدرون، كل أنواع الغدر تدخل في هذا، هذا يُنصب له لواء عند اسْتِهِ يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان، بهذا اللواء يُفضح.

الذي يتزوج اثنتين ويميل للثانية فعلا أو قولا، أما قلبا فالقلب ما يملك، لكن القول والفعل، يتزوج اثنتين ويميل إلى الثانية، والثانية ليس بشرط أنها الجديدة، يمكن الأولى ويمكن الجديدة، يميل إليها قولا، فإذا تكلم عن أبناء المحبوبة عنده أكثر قال أولادي وإذا تكلم عن الأخرى قال أولادك، هذا ظلم للزوجة وللأولاد، ما يجوز، أو فعلا: إذا اشترى فاكهة من السوق وجاء عند البيت قبل ما يصعد ينظر في الأكياس، الأجود هذا للمحبوبة، والذي فيه ... جعله للثانية.

أو: الذي للمحبوبة حمله بيديه وصعد به إلى البيت والثانية ضرب عليها الجرس وقال قولي للولد ينزل يأخذ أغراضكم، هذا ظلم

فالذي يتزوج اثنتين ويميل إلى إحداهما قولاً أو فعلاً يأتي يوم القيامة وشقه مائل، حنكه مائل، ليس على الخلقة، يفضحه الله عز وجل يوم القيامة والعياذ بالله.

وهذا الذي يتفل في جهة القبلة، سواء كان في بيته، في طريقه، في سيارته، في المسجد، وهو يصلي، أو جالس، يأتي يوم القيامة والتفل بين عينيه، فضيحة له بين الخلائق يوم القيامة.

-    وهذا يدل على تحريم التّفل إلى جهة القبلة مطلقا، بل أن التفل إلى جهة القبلة من كبائر الذنوب، لأنه تُوُعِّد بِـخِزيٍ يوم القيامة، وهو أن يأتي على هذه الصورة.

فيحرم هذا سواء في المسجد، خارج المسجد، في البيت، يحرم التفل إلى جهة القبلة.

-    إلا على الصفة المستثناة، يضع المنديل على فمه ويتفل فيه، إذا كان على جهة القبلة، أما إذا كان في غير الصلاة له أن يتفل إلى اليمين إلى الخلف إلى اليسار ولكن لا يتفل إلى جهة القبلة.

-    فتحصّل عندنا:

§    المنع من التفل أو البُصاق أو التنخّم جهة القبلة، سواء كان التافل مصلياً أو غير مصل، في المسجد أو في خارج المسجد، لماذا؟ لحق الله عز وجل.

§    أيضا: المنع من التفل جهة اليمين حال الصلاة، وهذا لـحق الـمَلَك.

§    وأيضا: المنع من التفل مطلقا في المسجد إذا لم يدفنها سواء كان يصلي أو لا يصلي، أما إذا كان يدفنها فالتفل جائز.

-    وكل هذا على وجه التحريم على الراجح من أقوال أهل العلم، وذهب بعض الشافعية على أن هذا على الكراهة.

كيف يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ونقول هذا مكروه، غَضَبُ النبي صلى الله عليه وسلم ونَهْيُهُ والوَعِيد والتَّغْليظ دليلٌ على التحريم

بل ظاهر الحديث الأخير أن التفل إلى جهة القبلة من كبائر الذنوب

 


 

لا زلنا[3] مع الفصل الذي عقده المنذري للترهيب من إيقاع الأذى في المسجد، سواء كان الأذى حسيا أو معنويا، وقد شرحنا بعض الأحاديث التي أوردها المنذري وانتقاها الألباني رحمه الله عز وجل في هذا الفصل،

وتحصل لنا من تلك الأحاديث أن التفل أو البُصاق أو التَّنَخّم لا يخلو من أمور:

الأمر الأول: أن يكون تُجاه القبلة، في جهة القبلة، سواء كان الإنسان في المسجد أو في خارج المسجد، وسواء كان مصليا أو غير مُصَل، وقلنا: إن هذا حرام، وهذه الحرمة لحق ربنا سبحانه وتعالى، فمن تعظيم المؤمن لربه أن لا يتفُل تُجاه القبلة مطلقا.

والأمر الثاني: أن يكون التفل في الصلاة إلى جهة اليمين، وهذا حرام أيضا، لحق الملَك عليه السلام.

والأمر الثالث: أن يكون التفل في المسجد، في جدار المسجد، أو في أرض المسجد، إلى غير القبلة، وهذا أيضا حرام، وذلك لحق عُمّار المسجد، وعُبّاد الله عز وجل في المسجد، حتى لا يؤذيهم بهذا.

أما التفل حال كون المسلم في المسجد إذا كان في ثَوْب أو منديل فهذا لا حرج فيه، ولا بأس به،

 وأما التفل في أرض المسجد عن اليسار إذا كان الإنسان يصلي تحت رجله اليسـرى فهذا الأصل فيه المنع وعدم الجواز، إلا إذا احتاج الإنسان إليه حاجة شديدة، فإنه يؤذن له في هذا بشـرط أن يدفن ما تفله أو بُصاقه أو نخامته إذا كان المسجد يمكن أن تُدفن فيه، كأن كان مفروشا بالرمل أو نحو ذلك، أو يزيل هذه النخامة إذا فرغ من صلاته، بمنديل أو نحو ذلك، ولا يُبقيها في المسجد.

هذا خلاصة ما تحصّل لنا من الأحاديث في مجلسنا الماضي، ونواصل اليوم قراءة ما ذكره الحافظ المنذري في هذا الفصل وانتقاه الإمام الألباني رحم الجميع.



[1] " من بعيد، بل " تمت إضافتها لتوضيح المقصود.

[2] زيادة لتوضيح المقصود.

[3] من مقدمة الدرس التالي.

ومالي وللدنيا

إذا جلست في غرفتك وحدك ...

إني براء من الأهواء وما ولدت...

النظر إلى الحرام

غربة أهل الاستقامة - للشيخ محمد بن هادي المدخلي

سبحان الله !! طالب علم ليس له ورد بالليل ..عشنا وشفنا - للشيخ رسلان