السبت، 24 أكتوبر 2020

صفة الرضا، قال تعالى { رضي الله عنهم ورضوا عنه } - الشيخ سليمان الرحيلي

الرضا

قال تعالى: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }

من الدرس الثالث عشر لشرح العقيدة الواسطية

28 رجب 1439هـ

 

للتحميل أو الاستماع

 

-    هذه الآية الكريمة فيها إثبات صفة الرضا لربنا، وهي صفةٌ فعلية اختيارية، فالله سبحانه وتعالى يرضى، ولا شك في هذا.

-    الله يرضى عن الأعمال، ويرضى بها، كما قال الله عز وجل: { وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }، فالله عز وجل يرضى عن الشكر، ويرضى بالشكر، فالله رَضِيَ لكم الشكر يا عباد الله، ويرضى عنكم بالشكر، فمن الأسباب الجالبة لرضا الله: شُكر الله، أن تكون عبدًا شكورًا، إذا أردت أن يرضى الله عنك فكن عبدًا شكورًا، تَقْدُرُ نِعَم الله قَدْرَها، وتحرص على شكرها.

إذًا الله يرضى عن الشكر، فرضي عن هذا العمل، ويرضى بالشكر، فيرضى عن الشاكر.

-    وقال سبحانه: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }، فرضي الله الإسلام.

-    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ... )، رواه مسلم في الصحيح، وجاء عند الإمام أحمد: ( وأن تُناصِحوا من ولّاه الله أمركم )، فالله عز وجل رضي توحيده، ورضي جمع الكلمة على الحق، على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي مُناصحةَ ولاة الأمر، وهذا أيضا كما قلنا يُرضي الله.

فأعظم ما يُرضي الله التوحيد، أن تعبد الله، أن تجعل عبادتك كلها لله عز وجل، وألا تشرك به شيئًا.

ومما يرضى الله به عن العباد: أن يجتمعوا الجماعة الدينية والجماعة البدنية.

أما الجماعة الدينية فهي التمسّك بما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم في الدِّيانة، وهذه جماعةٌ لا تحدّها حدود، فمن تمسك بما في الكتاب والسنة وسار على طريقة السلف الصالح فهو على هذه الجماعة التي يرضاها الله ويرضى عن أهلها في أي بلد كان،

والجماعة البدنية هي جماعة الأبدان تحت راية ولي الأمر المسلم، والأصل أن تكون جماعة المسلمين البدنية واحدة، لكن إذا تعذر هذا كما هو الحال في زماننا فإن أهل كل بلد جماعة تحت راية ولي أمرهم المسلم،

الله يرضى الجماعة، ويرضى عن الجماعة، فإن أردت أن يرضى الله عنك فالزم الجماعة بنوعيها، الزم الجماعة الدينية، فكن على منهج السلف، على طريقة السلف رضوان الله عليهم، وإياك أن تخرج عن هذا، والزم جماعة بلدك تحت راية ولي أمرك المسلم،

والله يرضى أن نناصح ولاة أمرنا، ويرضى عمن يناصح ولي الأمر وينصح لولي الأمر، فينصح له ويأمر الناس بأداء حقه الشرعي، من غير إفراط ولا تفريط، وينصح ولي الأمر بالطريقة الشرعية، يناصحه سرا بما لا يهيّج قلوب العامة عليه.

-    أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )، رواه مسلم، فالله يرضى عن العبد الحامد، وهذا نوعٌ من الشكر، فإذا أكل الأكلة حمد الله، علم أولا أنها من الله، فلولا الله ما كانت، ولولا الله ما وصلت، ولولا الله ما لانت فدخلت، ولولا الله ما نفعت، فإذا علم ذلك حمد الله، وشكر الله، فيرضى الله عز وجل عنه.

-    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رِضا الله في رِضا الوالد )، رواه الترمذي وحسنه الألباني، فالله عز وجل رضي البرّ ويرضى عن البارّ، فمن أراد أن يرضى الله عنه فليُرضِ والديه، وليحرص على إرضاء والديه.

وهذه الأحاديث كما قلنا تتضمن الرضا عن العاملين،

-    فالله عز وجل يرضى، والرضا صفته، وليس رضا الله أمرًا خارجًا منفصلًا، وليس رضا الله إرادة الثواب كما يقول بعض الـمُؤَوّلة، وليس رضا الله هو الثواب نفسه، كما يقول بعض الـمُؤَوّلة، بل رضا الله عز وجل صفته.

-    وربنا سبحانه وتعالى يقول: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }، وهذا جزء من الآية الكريمة التي قال الله عز وجل فيها: { قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، فأهل الجنة من أعظم نعيمهم نيل الرضا، أنهم يَرْضَوْن عن ربهم، الذي هداهم في الدنيا صراطَه المستقيم، ولولا الله ما اهتدوا، كم من رجل أو امرأة يسمع القرآن ولكنه من المشركين! ولكن الله اصطفى من شاء من عباده فهداهم إلى صراطه المستقيم، والله لولا الله ما صلينا، والله لولا الله ما صمنا، والله لولا الله ما قعدنا هذا المجلس نتعلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يرضون عن ربهم وهم في جنته حيث هداهم في الدنيا صراطه المستقيم، وأدخلهم بفضله ورحمته الجنة، فإنه لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله، وإنما الجنة تُدْخَل بفضل الله، والعملُ سببٌ لنيل فضل الله، فهم يرضون عن ربهم، ويتنعّمون برضا الله عنهم وهذا أفضل لهم من جميع النعيم[1]، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ؟ فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ، فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا )، متفق عليه، فيتنعّمون برضا الله عز وجل عليهم، ورضوان الله عليهم في الجنة أكبر من كل نعيم، كما قال الله عز وجل: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر }.

-    وهذا الحديث يا أفاضل فيه رد على الـمُؤَوّلة الذين يقولون: إن رضا الله هو إرادة الثواب، يقولون: الله لا يرضى حقيقة، لكن رضوان الله أو رضا الله معناه إرادة الثواب، فإنا نقول: إن الله أراد ثواب أهل الجنة قبل أن يقول لهم هذا القول، ( أُحل عليكم رضواني )، ورد على الذين يقولون إن رضا الله هو ثواب الله، قلنا: نعيم الجنة هو من ثواب الله، ومع ذلك جعل الله عز وجل رضوانه أفضل من ذلك، فهذا يدل على أن ربنا سبحانه وتعالى يرضى حقيقةً.

-    وهذه الآية التي ذكرها الشيخ كما قلنا: هي جزء من الآية التي ذكرناها، وجاءت أيضًا في آيات أخرى، فجاءت في قول الله عز وجل: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، سبحان الله، السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم قادة أهل الحق بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يفضل من بعدهم باتباعهم بإحسان، فإذا أردت أن تكون من الفضلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فالزم غَرْزَ الأولين، وإياك وما أحدثه المتأخرون، فأولئك القوم هم الذين رضي الله عنهم جميعًا، أعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان فإن الله يرضى عنه، وهم قد رضوا عن ربهم الذي هداهم وأكرمهم، وأعدّ لهم الجنات.


فتوى

رؤية الله عز وجل، هذه الزيادة على نعيم الجنة، فهم لهم الجنة بنعيمها وزيادة، والزيادة هي رؤية الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم النعيم على الإطلاق.



[1]  قال الشيخ سليمان الرحيلي في الفتاوى في آخر الدرس: رؤية الله عز وجل، هذه الزيادة على نعيم الجنة، فهم لهم الجنة بنعيمها وزيادة، والزيادة هي رؤية الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم النعيم على الإطلاق.

الجمعة، 23 أكتوبر 2020

شرح العقيدة الواسطية - الدرس الثالث عشر - الرحمة، الرضا، الغضب، السَّخَط - الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله ورعاه

شرح العقيدة الواسطية 13

 

من قوله: « وَقَوْلُه: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} »

1439/7/28هـ


 

للتحميل أو الاستماع


نواصل شرحنا لهذا الكتاب الصغير في حجمه، العظيم في مضمونه ونفعه، العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يُثبت شيخ الإسلام بالدليل المُقنع والبرهان الساطع أن عقيدة أهل السنة والجماعة مطابقة لما في القرآن، ولصحيح الأحاديث عن سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وأنها عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم، وعقيدة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة الأكارم، وعقيدة سلف الأمة.

والمؤمنُ إذا علم هذا كيف لا يعتقد هذه العقيدة؟ وكيف يتركها إلى غيرها؟ لا شك أن المؤمن الذي يرجو ما عند الله ويخاف الله سبحانه وتعالى سيلزم هذه العقيدة، ويعضّ عليها بالنواجذ.

وشيخ الإسلام في أول هذه العقيدة تكلم عن أصول أهل السنة والجماعة في الإيمان بالأسماء والصفات، ثم أعقب ذلك بتفصيل هذا بإيراد النصوص من القرآن التي تدل على مطابقة عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات لقول الله سبحانه وتعالى، ثم سيُعقب ذلك إن شاء الله عز وجل بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك.

ولا شك أن المؤمن يتلذذ ويتمتّع بسماع الآيات التي فيها وصف ربه سبحانه وتعالى.

ولا زلنا مع الآيات التي يوردها شيخ الإسلام رحمه الله عز وجل في صفات ربنا سبحانه وتعالى، وكان آخر ما تحدثنا عنه صفة الرحمة لربنا سبحانه وتعالى، وقد شرحنا أكثر الآيات التي أوردها المصنف رحمه الله عز وجل في هذه الصفة العظيمة، وتبقى أظن آية لم نعلّق عليها.

 

وقوله: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

-    هذا من قول نبي الله يعقوب عليه السلام، فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين، وقد علم الأنبياء ذلك وتوسّلوا إلى ربهم بذلك، قال موسى عليه السلام: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }، وقال يوسف عليه السلام: { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }، وقال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }.

-    فالله عز وجل أرحم الراحمين، فالراحمون كثر، والله عز وجل أرحم الراحمين، ولو جُمعت رحمات الخلق كلهم إنسهم وجنهم وحيوانهم وغير ذلك لكانت رحمة الله عز وجل أعظم وأكرم وأوسع، بل رحمات الخلق كلهم إنما هي من آثار رحمة ربنا سبحانه وتعالى، فالله عز وجل من رحمته أنه خلق لخلقه رحماتٍ بها يتراحمون، وبها يرحمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَومَ خَلَقَها مِئَةَ رَحْمَةٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، وأَرْسَلَ في خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً )، رواه البخاري.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ، حتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عن وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ).

وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَام، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ ).

-    ومن تلك الرحمات: الجنة، يرحم الله بها عباده، قال الله عز وجل للجنة: ( أنْتِ رَحْمَتي أرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي )، كما في الصحيحين.

-    وأبلغُ من تلك الرحمات المخلوقة رحمة الله عز وجل التي هي صفة الله سبحانه وتعالى، وهي ليست مخلوقة، ولا يعلم كُنْهَهَا إلا الله، ولا تُحْصَرُ أبدًا.

-    إذًا، انتبهوا أيها الأكارم، رحمة الله عز وجل تُطلق على أمرين:

الأمر الأول: رحمة الله التي هي وَصْف الله سبحانه وتعالى، فهذه صفةٌ لله ليست مخلوقة، ولا تُحصر، وقد وَسِعَت كل شيء.

والأمر الثاني: رحمة الله المخلوقة التي خلقها، وهذه قد تُحْصَر.

والله عز وجل يرحم عباده لأنه رحيم، ويرحم عباده يوم القيامة برَحَماتٍ خلقها، الله عز وجل خلق الرحمة مائة جزء، وأرسل بين الخلائق وأنزل بين الخلائق رحمة واحدة، جزء واحد، فكل رحمات الخلائق هي جزء، وادّخر تسعا وتسعين رحمة من هذه الرحمات التي خلقها، يرحم بها عباده يوم القيامة، وفوق هذا وأعظم من هذا وأكرم من هذا أن الله سبحانه وتعالى متّصف بصفة الرحمة، فما أعظم رحمة الله.

فإذا كانت رحمات الخلق التي علمناها والتي لم نعلمها إنما هي جزء من الرحمات التي خلقها الله يرحم بها عباده فكيف برحمته التي هي صفته سبحانه وتعالى؟

-    وفي الآية صفةٌ أخرى، وهي صفة الحفظ، فالله خَيرٌ حفظًا، والله خيرٌ حافظًا، وقد قُرئ بهذا وهذا في القراءات السَّبْعِيّة، فالله سبحانه وتعالى خير الحافظين، وهو على كل شيء حفيظ.

-    وحفظ ربنا نوعان:

النوع الأول: حفظ ما اقتضت حكمة الله عز وجل حفظه، فالله عز وجل يحفظ السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما سبحانه وتعالى، والله يحفظ عباده حفظًا عامًا، بما خلقه لهم، وما جعله لهم، والله عز وجل يحفظ دينه، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }، فالله يحفظ القرآن، ولازمُ ذلك حفظ الدين، والله عز وجل يحفظ عباده المؤمنين، يحفظ لهم دينهم، ويحفظهم بدينهم، وكلما كان العبد لله أحفظ كان بحفظ الله أحظى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ( احفَظِ اللهَ يَحفظْك )، كلما كان العبد لله أحفظ بفعل أوامره واجتناب نواهيه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي كان بحفظ الله له أحظى من غيره.

والنوع الثاني: هو حفظ الأعمال، فالله يحفظ لعباده أعمالهم، لا يضِيع منها شيء، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.

فالله سبحانه وتعالى خيرٌ حافظًا.

-    وإذا علم المؤمن أن الله أرحم الراحمين، فإنه لن ييأس من رحمة الله، ولن يَقْنَط من رحمة الله، مهما اشتدّت الكروب فإنه يوقن برحمة الله سبحانه وتعالى، ومهما عَظُمَت منه الذنوب فإنه يوقن برحمة الله عز وجل، لكن إيقانه برحمة الله عز وجل يدعوه إلى التوبة، وإلى الإقبال على الله عز وجل، ولا يجعله يغترّ بهذه الرحمة ويزداد عُتُوًّا ويزداد ذنوبًا، لا وكلا، بل إذا أيقن من أن ربه أرحم الراحمين، فإنه يوقن أن الله سيتوب عليه إن تاب، فيُقبل على الله، ويتوب توبةً صادقةً من ذنوبه، والمؤمن إذا علم أن الله أرحم الراحمين وأيقن من هذا فإنه سيسعى لنيل رحمة الله سبحانه وتعالى، ويبذل ما يستطيع ليكون من أهل رحمة الله سبحانه وتعالى.

-    وإذا أيقن المؤمن أن الله حفيظٌ وأنه حافظٌ، وحفيظ أبلغ من حافظ، فإنه لن يتوكّل إلا على الله، ولن يعلّق قلبه إلا بالله، لن يعلّق قلبه بمخلوق أبدًا، وإنما يعلّق قلبه بالله، لأن الله عز وجل خيرٌ حافظًا، ولأنه سبحانه وتعالى حفيظ، فلا يلجأ إلا لله، ولا يعلّق قلبه إلا بالله، لا يعلّق قلبه بتميمة يضعها ليُحفَظ بها، فيضع كفا فيه خمسة، أو يضع خرزة زرقاء في خاتمه، أو يضعها في عنقه، أو يضعها في سيارته، ولا يضع مصحفًا في سيارته لِحِفْظِها، ولا يكتب على سيارته { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }، فإن كل هذا من التمائم، ومن تعلّق تميمة وُكِل إليها، وإنما يتوكّل على الله، ويرجو الحفظ من الله، ويعلم أنه إن ذكر الله حفظه الله، وإن حفظ اللهَ حفظه اللهُ سبحانه وتعالى.


وقوله: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }

-    هذه الآية الكريمة فيها إثبات صفة الرضا لربنا، وهي صفةٌ فعلية اختيارية، فالله سبحانه وتعالى يرضى، ولا شك في هذا.

-    الله يرضى عن الأعمال، ويرضى بها، كما قال الله عز وجل: { وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }، فالله عز وجل يرضى عن الشكر، ويرضى بالشكر، فالله رَضِيَ لكم الشكر يا عباد الله، ويرضى عنكم بالشكر، فمن الأسباب الجالبة لرضا الله: شُكر الله، أن تكون عبدًا شكورًا، إذا أردت أن يرضى الله عنك فكن عبدًا شكورًا، تَقْدُرُ نِعَم الله قَدْرَها، وتحرص على شكرها.

إذًا الله يرضى عن الشكر، فرضي عن هذا العمل، ويرضى بالشكر، فيرضى عن الشاكر.

-    وقال سبحانه: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }، فرضي الله الإسلام.

-    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ... )، رواه مسلم في الصحيح، وجاء عند الإمام أحمد: ( وأن تُناصِحوا من ولّاه الله أمركم )، فالله عز وجل رضي توحيده، ورضي جمع الكلمة على الحق، على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي مُناصحةَ ولاة الأمر، وهذا أيضا كما قلنا يُرضي الله.

فأعظم ما يُرضي الله التوحيد، أن تعبد الله، أن تجعل عبادتك كلها لله عز وجل، وألا تشرك به شيئًا.

ومما يرضى الله به عن العباد: أن يجتمعوا الجماعة الدينية والجماعة البدنية.

أما الجماعة الدينية فهي التمسّك بما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم في الدِّيانة، وهذه جماعةٌ لا تحدّها حدود، فمن تمسك بما في الكتاب والسنة وسار على طريقة السلف الصالح فهو على هذه الجماعة التي يرضاها الله ويرضى عن أهلها في أي بلد كان،

والجماعة البدنية هي جماعة الأبدان تحت راية ولي الأمر المسلم، والأصل أن تكون جماعة المسلمين البدنية واحدة، لكن إذا تعذر هذا كما هو الحال في زماننا فإن أهل كل بلد جماعة تحت راية ولي أمرهم المسلم،

الله يرضى الجماعة، ويرضى عن الجماعة، فإن أردت أن يرضى الله عنك فالزم الجماعة بنوعيها، الزم الجماعة الدينية، فكن على منهج السلف، على طريقة السلف رضوان الله عليهم، وإياك أن تخرج عن هذا، والزم جماعة بلدك تحت راية ولي أمرك المسلم،

والله يرضى أن نناصح ولاة أمرنا، ويرضى عمن يناصح ولي الأمر وينصح لولي الأمر، فينصح له ويأمر الناس بأداء حقه الشرعي، من غير إفراط ولا تفريط، وينصح ولي الأمر بالطريقة الشرعية، يناصحه سرا بما لا يهيّج قلوب العامة عليه.

-    أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )، رواه مسلم، فالله يرضى عن العبد الحامد، وهذا نوعٌ من الشكر، فإذا أكل الأكلة حمد الله، علم أولا أنها من الله، فلولا الله ما كانت، ولولا الله ما وصلت، ولولا الله ما لانت فدخلت، ولولا الله ما نفعت، فإذا علم ذلك حمد الله، وشكر الله، فيرضى الله عز وجل عنه.

-    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رِضا الله في رِضا الوالد )، رواه الترمذي وحسنه الألباني، فالله عز وجل رضي البرّ ويرضى عن البارّ، فمن أراد أن يرضى الله عنه فليُرضِ والديه، وليحرص على إرضاء والديه.

وهذه الأحاديث كما قلنا تتضمن الرضا عن العاملين،

-    فالله عز وجل يرضى، والرضا صفته، وليس رضا الله أمرًا خارجًا منفصلًا، وليس رضا الله إرادة الثواب كما يقول بعض الـمُؤَوّلة، وليس رضا الله هو الثواب نفسه، كما يقول بعض الـمُؤَوّلة، بل رضا الله عز وجل صفته.

-    وربنا سبحانه وتعالى يقول: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }، وهذا جزء من الآية الكريمة التي قال الله عز وجل فيها: { قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، فأهل الجنة من أعظم نعيمهم نيل الرضا، أنهم يَرْضَوْن عن ربهم، الذي هداهم في الدنيا صراطَه المستقيم، ولولا الله ما اهتدوا، كم من رجل أو امرأة يسمع القرآن ولكنه من المشركين! ولكن الله اصطفى من شاء من عباده فهداهم إلى صراطه المستقيم، والله لولا الله ما صلينا، والله لولا الله ما صمنا، والله لولا الله ما قعدنا هذا المجلس نتعلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يرضون عن ربهم وهم في جنته حيث هداهم في الدنيا صراطه المستقيم، وأدخلهم بفضله ورحمته الجنة، فإنه لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله، وإنما الجنة تُدْخَل بفضل الله، والعملُ سببٌ لنيل فضل الله، فهم يرضون عن ربهم، ويتنعّمون برضا الله عنهم وهذا أفضل لهم من جميع النعيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ؟ فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ، فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا )، متفق عليه، فيتنعّمون برضا الله عز وجل عليهم، ورضوان الله عليهم في الجنة أكبر من كل نعيم، كما قال الله عز وجل: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر }.

-    وهذا الحديث يا أفاضل فيه رد على الـمُؤَوّلة الذين يقولون: إن رضا الله هو إرادة الثواب، يقولون: الله لا يرضى حقيقة، لكن رضوان الله أو رضا الله معناه إرادة الثواب، فإنا نقول: إن الله أراد ثواب أهل الجنة قبل أن يقول لهم هذا القول، ( أُحل عليكم رضواني )، ورد على الذين يقولون إن رضا الله هو ثواب الله، قلنا: نعيم الجنة هو من ثواب الله، ومع ذلك جعل الله عز وجل رضوانه أفضل من ذلك، فهذا يدل على أن ربنا سبحانه وتعالى يرضى حقيقةً.

-    وهذه الآية التي ذكرها الشيخ كما قلنا: هي جزء من الآية التي ذكرناها، وجاءت أيضًا في آيات أخرى، فجاءت في قول الله عز وجل: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، سبحان الله، السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم قادة أهل الحق بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يفضل من بعدهم باتباعهم بإحسان، فإذا أردت أن تكون من الفضلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فالزم غَرْزَ الأولين، وإياك وما أحدثه المتأخرون، فأولئك القوم هم الذين رضي الله عنهم جميعًا، أعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان فإن الله يرضى عنه، وهم قد رضوا عن ربهم الذي هداهم وأكرمهم، وأعدّ لهم الجنات.


وقوله: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }

-    هذه الآية أوردها المصنف لإثبات صفة الغضب لله عز وجل، فإن الله عز وجل يغضب على من يستحق الغضب، وغضب الله عدلٌ في ذاته وفي أثره، فالله لا يغضب إلا على من يستحق الغضب، وإذا غضب وشاء أن يؤاخذَ فإنه لا يؤاخذ إلا بعدل، إذًا غضب الله من عدل الله، هو غضبٌ وهو عدلٌ في ذاته، لأن الله لا يغضب إلا على من يستحق أن يغضب عليه، وهو عدلٌ في أثره لأن الله لا يظلم الناس شيئا وإن غضب سبحانه، فإن شاء أن يؤاخذ من غضب عليه فإنه يأخذه بعدل، ولا يظلمه شيئًا.

-    الله غضب على اليهود لكفرهم وقتلهم الأنبياء، كما قال الله عز وجل: { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ }.

-    والله عز وجل يغضب على الكافرين، الذين يكفرون بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ربنا سبحانه: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.

-    وكذلك يغضب الله على المؤمن إذا فرّ عند التحام الصفين من غير عذر، فالله عز وجل يغضب.

-    وهذه الآية أيضًا فيها أن الله يلعن، فيطرد من استحق الطرد من رحمته، وهذه صفة أخرى لربنا سبحانه وتعالى.

-    يقول الله عز وجل: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }:

{ من } شرطية، { يَقْتُلْ مُؤْمِنًا }: هذا يُخْرِج غير المؤمن، فالكفار لا يدخلون في الوعيد الوارد في هذه الآية، لكن لا يعني ذلك أن قتل الكفار مطلقًا جائز؛ فإن الكافر الـمُؤَمَّن لا يجوز قلته، المؤمَّن بعهد أو أمان أو نحو ذلك لا يجوز قتله، لكنه لا يدخل في هذه الآية، فما يأتي مغفَّل ويقول الله عز وجل قال: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } وأنا ما قتلت مؤمنا، لأن قتل من أُمِّن حرام ومن كبائر الذنوب، ومن قتل مُعَاهَدا لم يَرَحْ رائحة الجنة، لكن هذا القيد إنما هو لهذا الوعيد.

-    { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا }: أي بقصد، وهذا يُخرج من لم يقصد، كمن ضربه بعصا لا تقتل غالبًا فمات، هو لم يقصد قتله، قصد ضربه، ولكن مات، وهذا شبه العمد، أو أطلق رصاصة على شيء فأخطأت مسارها فقتلت مسلمًا، فهذا لا يدخل في الوعيد، وكذلك لا يدخل في الوعيد من لا قَصْد له كالمجنون، المجنون لو قتل مؤمنا فإنه لا يدخل في الوعيد، لأنه لا يقال إنه متعمد، لأنه لا قصد له، وكذلك يقول العلماء: الصبي الصغير إذا قتل فإنه لا يدخل في الوعيد.

ونحن نتكلم عن الوعيد لا عن القتل.

-    { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }: وهذا اسم من أسماء النار والعياذ بالله.

-    { خَالِدًا فِيهَا }: عقيدة أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، وأنه لا يُخلَّد في النار، فكيف تُوَجَّه هذه الآية؟

{ خَالِدًا فِيهَا }: قال بعض أهل العلم المقصود بهذه الآية الكافر يقتل مؤمنًا، قالوا: في الآية لم يُعيَّن القاتل، والمقصود هو الكافر، يعني "والكافر إذا قتل مؤمنا متعمدا"، وهذا ضعيف؛ لأن الكافر يُخَلَّد في النار بكفره، ولأن الآية عامة.

وقال بعض أهل العلم: تُوَجّه الآية بما إذا قتله مُسْتَحِلا قتله، والمستَحِل يكفر، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن المستحل يُخَلد في النار ولو لم يقتل، لو أن شخصا اعتقد أنه يجوز قتل المؤمنين فإنه يكفر حتى لو قعد في بيته.

وقال بعض أهل العلم: هذه مقيَّدة بقيد: "إن جازاه"، يعني: يُخلَّد في النار إن جازاه الله بهذا، وهذا أيضا بعيد؛ فإن المؤمن لا يخلَّد في النار.

وقال بعض أهل العلم: هذا سببٌ للخلود في النار، ويكون الإيمان مانعًا من الخلود في النار، فيوجد السبب لِعِظَم الجرم، ويقابله المانع، فيمنع من الخلود، واضح هذا الوجه؟ هذا وجه جيد، يقولون : هذا سبب للخلود في النار لِعِظَم الجرم، ولكن إذا كان القاتل مؤمنا فإنه يقابل السبب مانعٌ، وهو الإيمان، فيمنع من خلوده في النيران.

وقال بعض أهل العلم: { خَالِدًا فِيهَا }: أي ماكثًا فيها مُكْثًا طويلًا، فقالوا: الخلود معناه الـمُكْث الطويل، ثم هذا الـمُكث قد يكون مُؤَمَّدا وقد يكون مُؤَبَّدًا، قد يكون مؤمَّدا: أي له حد ينتهي إليه، كما في شأن القاتل عمدًا، وقد يكون مؤبَّدًا كما في شأن الكفار، والذي يدل على هذا الأدلة.

ثم إن قاعدة أهل السنة والجماعة أن كل وعيد ورد على كبيرة دون الشرك مُقَيَّد بقول الله عز وجل: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ }، فإن الله قد يغفر.

ولكن انتبهوا، أهل السنة والجماعة إذا أوردوا نصوص الوعيد لا يورِدُون هذا القيد، حتى لا تذهب فائدة الوعيد، وهذا معنى قول بعض أهل العلم: "أمِرّوها كما جاءت"، أي اذكروا الوعيد للناس كما جاء، مع أنك تعتقد أن هذا الوعيد مقيد بقول الله عز وجل: ,{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، لكن إذا جئت تقرأ على الناس الآية ما تقول لهم: "وهذا مقيّد" حتى لا تُذْهب فائدة الوعيد من نفوسهم.

-    { وغضب الله عليه ولعنه }: أي طرده من رحمته، وهذا عند أهل العلم مُقَيد بما إذا لم يتب، أما إذا تاب صادقًا فإن الله يتوب عليه.

والتوبة تُسقط حق الله، من تاب تاب الله عليه، ولكنها لا تُسقط حق المخلوقين، فيبقى القَصَاص للأولياء، وإن عَفَوا فذلك خير، ويبقى حق المقتول؛ لأنه حق للمخلوق، وسيسأل ربه ويقول: يا رب سَلْ هذا لم قتلني؟، وقد يُقتصّ للمخلوق من قاتله وقد يعفو الله، لكن ذهب جمع من العلماء إلى أنه إن تاب في الدنيا أرْضى الله خصمه يوم القيامة.

-    بقي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن القاتل عمدًا لا توبة له.

وقد جاء عنه رأيان في المسألة، ولكن على هذا الرأي ما توجيهه؟

قال بعض أهل العلم: مقصوده أنه لا يُوفَّق للتوبة، فالقتل العمد ورطة لا مخرج منها، فلا يوفَّق للتوبة، ولو تاب لتاب الله عليه، وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللهَ حجب التوبةَ عن كلِّ صاحبِ بدعةٍ ) أي أنه لا يوفَّق للتوبة.

بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل عمدًا قد يَؤُول بصاحبه إلى الكفر، فتضيق نفسه حتى يكفر.

وهذا أحد الوجوه التي وجّه بها بعض أهل العلم الآية { خَالِدًا فِيهَا }، قالوا: إنه يقتل فتضيق نفسه ولا يتوب حتى يقع في الكفر بالله عز وجل، فيكون مُخَلدا في النار.

هذا وجه.

والوجه الثاني: أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن توبته لا تكون تامة، ومعنى لا تكون تامة أنها لا تُسقط جميع الحقوق، إذ يبقى حق الأولياء قائمًا، فلهم حق القصاص ولو تاب، ويبقى حق المقتول يوم القيامة قائما، فكانت التوبة ناقصةً لنقص أثرها، لأن الأصل أن التوبة تهدم الذنب، وتهدم جميع آثاره، فمراد ابن عباس رضي الله عنهما أنها ليست تامةً، وليس المقصود أنها ليست مقبولة مطلقًا.

 وهذا لا بد من توجيهه ليتفق مع ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة.


وقوله: { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }

-    { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }: أي ذلك الحال السيء من كون الملائكة عند الموت يضربون وجوههم وأدبارهم، فالكافر عند موته تضربه الملائكة على وجهه، وتضربه على دُبُره، وذلك بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه.

-    وفي هذه الآية إثبات صفة السَخَط لله عز وجل، وهو كالغضب، صفة اختيارية.

-    والسَخَط عند كثير من العلماء مرادف للغضب، فهما بمعنى واحد، يقال: سَخِطَ عليك ويقال غَضِبَ عليك، بمعنى واحد.

وفرّق بينهما بعض العلماء، فقال بعض العلماء: السخط هو أول مراتب الغضب، وقالوا: إن الغضب ثلاث مراتب: سَخَط وغَضَب ومَقْت، السخط أول مراتب الغضب، ثم الغضب، ثم المقت، وهو أشد الغضب، فقالوا: السخط أول مراتب الغضب.

وفرّق بينهما بعض العلماء بأن الغضب يقع من الكبير على الصغير، ومن الصغير على الكبير، فالكبير يغضب من الصغير والصغير يغضب من الكبير، أما السَخَط فلا يكون إلا من الكبير على الصغير، فيقال للصغير إذا غضب من أبيه: "غَضِبَ"، ولا يقال: "سَخِطَ".

إذًا: بعض أهل العلم بل أكثرهم يرون أن السخط هو الغضب، وبعضهم يرون أن السخط أول مراتب الغضب، فهو نوع من الغضب، وبعضهم يرون: أن الغضب أعم من السخط من جهة من يقع منه، فالغضب يقع من الكبير على الصغير ومن الصغير على الكبير أما السخط فلا يقع إلا من الكبير على الصغير.

ولا مانع من كل هذه في هذه الصفة، فالسخط غضب، وهو نوع منه، وهو واقعٌ من الله عز وجل على من يستحق ذلك.

 

والمقصود إثبات صفة السَخَط لله عز وجل.



فتاوى

 

رؤية الله عز وجل، هذه الزيادة على نعيم الجنة، فهم لهم الجنة بنعيمها وزيادة، والزيادة هي رؤية الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظم النعيم على الإطلاق.

ومالي وللدنيا

إذا جلست في غرفتك وحدك ...

إني براء من الأهواء وما ولدت...

النظر إلى الحرام

غربة أهل الاستقامة - للشيخ محمد بن هادي المدخلي

سبحان الله !! طالب علم ليس له ورد بالليل ..عشنا وشفنا - للشيخ رسلان