الأحد، 18 أكتوبر 2020

شرح العقيدة الواسطية - الدرس الثاني عشر - الرحمة - الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله ورعاه

شرح العقيدة الواسطية 12

من قوله: « وَقَوْلُهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} »

1439/7/21هـ


للتحميل أو الاستماع


-       تقرر في المجلس الماضي أن ربنا سبحانه وتعالى يُحَب ويحِب سبحانه وتعالى.

-       وأنه الودود الذي يودّ من عباده من شاء، ويودّه عباده الموحدون، وعرفنا أن الوِد هو صفو المحبة، وأصفى المحبة.

-       وأن الله عز وجل يتخذ من شاء من عباده خليلاً، وأن الخلة هي أعلى المحبة، وعرفنا أن إبراهيم عليه السلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم يحبهما الله، ويودهما الله، واتخذهما الله خليلين، فلهما المحبة ولهما الوِد ولهما الخُلة.

-       وعرفنا أن محبة العبد لربه تقتضي أموراً هي جالبة لمحبة الرب لعبده:

أولها: التقرب إلى الله عز وجل بما يحب، وأعلى ذلك التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض، وأعلى ذلك: التقرب إلى الله عز وجل بالتوحيد.

ثم يلي ذلك التقربُ إلى الله عز وجل بالنوافل، فمن أحب الله أحب التقرب إلى الله، وأحب ما يحبه الله، وفي الحديث: أن الله عز وجل قال: ( ..، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، .. ).

وثانيها: اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فمقتضى محبة العبد لربه أن يحسن اتباعه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحسن اتباعه لمحمد صلى الله عليه وسلم نال محبة الله سبحانه وتعالى، { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }.

وثالثها: كثرة ذكر الله عز وجل، فإن من أحب الله أنس بذكره، وسعد بذكره، وكانت لذة مجلسه أن يذكر ربه سبحانه وتعالى، ومن ذكر اللهَ ذكره اللهُ أعظم من ذكره إياه، فمن ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، وشتان بين الأمرين، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه.

-       وإذا تقرر ذلك فإن المؤمن الذي عرف أن ربه ليس كمثله شيء، وقدرَ الله حق قدره، يؤمن بصفة المحبة لله عز وجل، بمعناها الظاهر الحقيقي، على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.

أما من كان عنده نقصٌ في قدْر الله قدره وفي إدراك أنه سبحانه ليس كمثله شيء فإنه إذا سمع الصفة تمثل صفة المخلوق فاستعظمها واستهولها وأوَّلها، فنجد أن كثيراً ممن لم يعرفوا الأصول الشرعية في هذا الباب يؤوّلون الصفات، أو يؤوّلون أكثر الصفات، والخللُ إنما جاءهم في هذا الباب من أمرين كلّيّين ترجع إليهما أصولهما في هذا الباب.

أما الأمر الأول: فهو قياس الخالق بالمخلوق، فإذا سمعوا صفةً لله عز وجل في الكتاب والسنة قاسوا الخالق سبحانه بالمخلوق، فرأوا أن هذه الصفة لا تليق بالله، بناءً على هذا القياس، وهذا من أفسد القياس، فإن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فكيف يقاس بالمخلوق!

وأما الأمر الثاني: فهو أنهم يحكمون بالجزء على الكل، وهذا من أظلم الأحكام، ألا ترى يا أخي أنه لو أن أحداً رأى مسلماً يسرق فقال: المسلمون سُرّاق، أو رأى مسلماً يقتل، فقال: المسلمون قتلة، أو رأى رجلاً من دولة يكذب فقال: أهل الدولة الفلانية كذبة أو خونة، ألا ترى أن هذا من الظلم البيّن؟، فمن خلل القوم أنهم يحكمون بالجزء على الكل، فمثلاً في المحبة لما رأوا أن المحبة في المخلوق هي ميل القلب إلى ما يستلذّه ويشتهيه حكموا بهذا الحكم على كل محبة، فحكموا بالجزء على الكل، وهذه طريقة فاسدة.

ولذلك أيها الإخوة من الطوائف المنحرفة في هذا الباب:

من أنكر أن الله يحب من شاء من عباده، ويحبه عبادُه، فأنكر الطرفين، وأوّل الجهتين، وهؤلاء هم الجهمية، فقد أوّلت الجهمية محبة العبد ربّه بطاعته وامتثال أمره أو محبة عباده الصالحين، فقالوا: معنى أن العبد يحب الله ليس حقيقة أنه يحب ربه، لا، وإنما معناها أنه يطيعه، ويمتثل أمره، ويحب عباده، ولا شك أن هذه من آثار محبة العبد لربه، لكنها ليست محبة العبد لربه، لكن هكذا أوّلوا، وأوّلوا محبة الله تعالى لعبده بأنها الإحسان إليه، أو إرادة الخير له، فقالوا الله لا يحب عبده حقيقةً، وإنما معنى محبة الله للعبد أنه يحسن إليه، أو أنه يريد الخير له، وهذه تأويلات فاسدة، تخالف النصوص وما أجمع عليه السلف.

ومن الناس من أثبت محبة العباد لله، لكن تأوّل محبة الله لمن شاء من عباده، بأنها إرادة الإكرام، أو الإثابة، أو غير ذلك.

وكل هذا مخالفٌ لنص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه السلف، ومبنيّ على الأمرين الفاسدين المتقدم ذكرهما.

-       ومما ينبغي أن يعلمه المؤمن وأن يعتقده: أن الله عز وجل كما يحِب يُبغِض، فيُبغِض أقواماً ويبغِض أفعالاً، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا }، وفي الحديث عند مسلم: ( ...، وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فيَقولُ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ: فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ، قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ ).

فعلى المؤمن كما يتطلب أن يحبه الله أن يحذر حذرا شديداً من عدم محبة الله، ومن بغض الله سبحانه وتعالى.

-       ثم نواصل التعليق على ما أورده الشيخ من كتاب ربنا مما تطابقه عقيدة أهل السنة والجماعة لفظاً ومعنىً، من غير زيادة ولا نقص.

وقد علمتم أن الشيخ لا يذكر في هذا الكتاب من الكلام إلا ما لا بد منه، أعني من كلام الناس والعلماء، وإنما يذكر فيه قال الله، ثم يُعْقِب ذلك في فصلٍ بالأحاديث المتعلقة بما يذكره من المعتقد، ولا زلنا مع تفصيل عقيدة أهل السنة والجماعة المطابقة لما في الكتاب والسنة.


وَقَوْلُهُ: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }.

-       هذه صفة الرضا، وهي في كثير من النسخ مقدمة هنا، وفي بعض النسخ مؤخرة، والتأخير أولى، فأحسن سياق النسخ التي أُخِّرت فيها صفة الرضا بعد صفة الرحمة، وقبل الكلام عن صفة الغضب والسَّخَط وما يتعلق بها، وأنا أسير على هذا النسق، ولذلك نؤخر الكلام عن هذه الآية عند الموطن الذي في النسخ الأخرى، وهو أليق بالنَسَق والمعنى، فنأتي بها في موضعها إن شاء الله عز وجل.


وَقَوْلُهُ: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }:

-       هنا بدأ المصنف رحمه الله عز وجل الكلام عن صفة الرحمة، بذكر الآيات القاطعة بثبوت صفة الرحمة لربنا سبحانه وتعالى.

وفي هذه الآية بيانُ اسمَي الله عز وجل: الرحمن الرحيم.

-       واسم الرحمن ورد في القرآن مائة وستين مرة، واسم الرحيم ورد في القرآن مائة وستا وأربعين مرة.

-       وقد تضمن هذان الاسمان إثبات صفة الرحمة لربنا سبحانه وتعالى، وقد تكلم العلماء في الفرق بين هذين الاسمين، المتضمنين لإثبات صفة الرحمة لله عز وجل:

فقال بعض أهل العلم: الرحمن: اسمٌ دالّ على الصفة القائمة بربنا سبحانه وتعالى، والرحيم اسم دالّ على تعلّق الرحمة بالمرحوم، فالرحمن للوصف، والرحيم للفعل، فالرحمن دالّ دلالةً أوّلية على صفة الرحمة لربنا سبحانه وتعالى، والرحيم دالّ على فعل الله عز وجل برحمة عباده، وأنه يرحم عباده سبحانه وتعالى.

ومن الفروق بينهما أيضاً: أن اسم الرحمن لا يسمى به أحدٌ غير الله، فلا يقال لمخلوق: الرحمن، أما اسم الرحيم فيسمى به بعض عباده، ورحمته تناسبه، كما في قول ربنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: { بالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }.

ومن الفروق بينهما أيضاً: أن الرحمن أبلغ في الدلالة على الرحمة من الرحيم عند جمهور العلماء.

ومن الفروق بينهما أيضاً: أن الرحمن يدلّ على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء، وعمّت كل حيّ، ووسعت كل مخلوق، وكل معلوم، وأن الرحيم دالّ على الرحمة الواصلة لعباد الله المؤمنين، فالمؤمنون يشملهم الاسمان: الرحمن الرحيم، ويختص المؤمنون بالرحيم.

وهذا على الغالب، وإلا فرحمة الله عز وجل واصلة إلى كل الخلق، لكنها ليست كرحمة الله الواصلة للمؤمنين.

رحمة الله عز وجل واصلة إلى كل الخلق بما سخّره لهم، حيث جعل الأرض مهاداً، وجعل النهار معاشاً، وجعل الليل سباتاً، وجعل لهم ما تتحقق به مصالحهم الدنيوية في أرضهم، وما تُدفع عنهم به المفاسد، وهذا لكل الناس، قال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }، فالله بما سخّره في الأرض وما يسّره من وسائل النقل، وما حمى به الخلق والأرض قد أوصل رحمته إلى الناس.

فيتحصّل من الفروق التي ذكرها العلماء: أن اسم الرحمن خاصّ في لفظه وعام في معناه، وأن اسم الرحيم عام في لفظه وخاص في معناه.

فاسم الرحمن خاص في لفظه فلا يسمى به غير الله، وعام في معناه فهو على وزن فعلان الذي يدل على السَّعة، فهو يدل على سَعة رحمة الله عز وجل.

وأما الرحيم فهو عام في لفظه حيث يسمى به غير الله، وخاصّ في معناه حيث يتعلق بالرحمة الواصلة، والرحمةُ الواصلة تكون للمؤمنين، وهذه الرحمةُ الخاصة بالمؤمنين، وتكون واصلةً لغير المؤمنين، وهذه الرحمة الدنيوية، التي يشترك فيها المؤمنون وغير المؤمنين.

فالله عز وجل رحمن رحيم.

 

{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }:

-       هذا من قول الملائكة عليهم السلام، الذين لا يقولون إلا بعلم، فهم أهل الصدق الخالص، والطاعة المطلقة، وقولُهم عن علم وحق، وهو يدل على سعة رحمة ربنا عز وجل من جهتين:

الجهة الأولى: من جهة كلمة { كل }، وكلمة { كل } تدل على العموم والشمول، { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }، فرحمة الله وسعت كل شيء وعمّت كل حي.

وأما الجهة الثانية فهي القرنُ بين سعة الرحمة وسعة العلم، فدل ذلك على أن كل شيء وصله علم الله عز وجل -وعلمُ الله لا يخرج عنه شيء- وسعته رحمة الله سبحانه وتعالى.

فرحمة الله وصلت إلى ما وصل إليه علمُه وخلقُه، فلم يخلُ مخلوق ولا معلومٌ من رحمة الله سبحانه وتعالى.

 

وقوله: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا }:

-       وهذا يدل على الحصر، أن الله عز وجل رحيم بالمؤمنين، فكيف نجمع بين هذه الآية والآية التي قبلها { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } وبين قول الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }؟

والجواب: أن رحمة الله عز وجل بالمؤمنين هي رحمةٌ خاصةٌ لا يشاركهم فيها غيرهم، فلهم في الدنيا الحياة الطيبة، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين، الحياة يشترك فيها المؤمنون وغير المؤمنين، أما الحياة الطيبة فإنما هي للمؤمنين، { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }، والحياة الطيبة هي التي يذلّ فيها المخلوق للخالق، ويعِزّ على المخلوقين، وما ذاك إلا للمؤمن، أما الكافر فلو تنعّم بلذائذ الدنيا فإنه لا يذلّ لله، ومن لا يذلّ لله لم تكن حياته طيبة، وقلبه مغلَّفٌ عن اللذة، فلذته ظاهرة، أما في الباطن فخواء، ولذلك تجد أن الكفار يقبلون على شرب الخمور، ويقعون في إدمان المخدرات أكثر من غيرهم، وأن أغنياءهم يقعون في هذا المستنقع أكثر من غيرهم، بسبب أن قلوبهم مغلفة عن اللذة، فلا حياة طيبة لهم.

إذن: من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين في الدنيا أن لهم الحياة الطيبة، ولو كانوا فقراء، ولو كانوا لا يجدون ما يأكلون إلا قليلاً، لهم الحياة الطيبة.

وأن لهم الرحمة يوم القيامة دون غيرهم، فلا يرحم الله يوم القيامة كافراً، وهذا الأصل، وسيأتي الكلام عن بعض الأمور عندما نتحدث عن الشفاعة إن شاء الله عز وجل.

إذن فرقٌ بين رحمة الله الواسعة، التي تشمل كل شيء، وبين رحمة الله التي حصرها الله في المؤمنين التي هي الرحمة الخاصة، فنحن يجب علينا أن نؤمن برحمة الله الواسعة وأن نؤمن برحمة الله الخاصة بالمؤمنين، وكلاهما من صفة الرحمة لربنا سبحانه وتعالى.

 

وقولُه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }:

-       قال الله عز وجل: { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ .. } الآية.

فعذاب الله لا يصيب كل شيء، وإنما يصيب من يستحقه بمعصيته لربه، والله يعفو عن كثير، وأما رحمته سبحانه فقد وسعت كل شيء وعمّت كل حي في الدنيا، فهذه رحمةٌ عامةٌ، وللمؤمنين رحمةٌ خاصةٌ ولذلك قال الله عز وجل: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }، أي: أن الرحمة الخاصة سيكتبها الله عز وجل لعباده المؤمنين بالهداية والأمن والحياة الطيبة في الدنيا والرحمة يوم القيامة.

-       وفي هذه الآية أن رحمة الله ينالها العبدُ بفضل الله بهذه العبادات العظيمة، بتقوى الله، إذا أردت أن يرحمك الله ومن الذي لا يريد؟! إذا أردت أن يرحمك الله فاتق الله، إن اتقيت الله استجلبت رحمات الله، أنت في ضيقٍ، أنت في كربٍ، وتريد أن يرحمك الله، فعليك بتقوى الله، تستجلب رحمة الله، وعليك بالصدقات، فإن الصدقة تُسْتَجلَب بها رحمة الله، وعليك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حقِّق اتباعه، وأحسن في اتباعه، واجعل اتباعه هو الأصل، واجعل اتباعك لغيره تابعاً لاتباعك له، اتباعك للعالِم في أحكامه وفي أقواله، اجعله تبعاً لاتباعك لمحمد صلى الله عليه وسلم لا لذاته، فإن تحقق عندك أن العالم في حكمه يوافق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، وإذا ظهر لك أن العالم أراد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو حكم الله -فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى-، إذا ظهر لك أن العالم أراد حكم الله، -وهذا الذي يجب أن تعتقده في العالم الرباني، وألا تتهمه في هذا الباب أبدا-، أنه إنما أراد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو حكم الله، لكنه أخطأ، -والعالم مهما كان فضله قد يخطئ-، فإنك لا تتبعه في حكمه، ولا تهدر فضله، أصلٌ يجب ألا يُغفَل حتى لا يضيع نور العلم في ظلمة الفتن، فإنا نرى أصولا تؤصَّل لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا وجود لها في كلام العلماء المتقدمين، تؤصَّل وتفصَّل للفتنة، وهذه تُجتنب، ويلزم الإنسان العتيق.

والحقيقة يا إخوة أننا في هذه الفتنة التي يمرّ بها المؤمنون في هذه الأيام لا تهمّنا الأطراف إلا بتحقيق الحق لكل أحد أحببناه أو أبغضناه في الله، وإنما الذي يهمّنا الأصول الشرعية ألا تغيَّب، وألا توضع الأصول التي يُسترق بها المؤمنون رِقّا علميا حكميا، وهي غير صحيحة ولا سديدة، وإن من الجهاد أن تقابَل الأصول غير الصحيحة ببيان الأصول الصحيحة  لكي يبقى الحق قائماً، وإني بالمناسبة لأحذّر طلاب العلم تحذيرا شديداً من لمز العلماء وإخراج بعض الناس ما تكنّ نفوسهم من بغض للعلماء، لكنهم كانوا يكتمونه، فرأوا الفرصة مواتية، لإخراج شيء من ذلك السم، كاتهام أو لمز بعض العلماء الكبار بأنهم كبروا في سنهم، فتأثرت عقوله أو أصبحوا أُلعوبةً في يد غيرهم، فإن هذا من اللمز الخبيث والكذب البين، ويدرك الإنسان أن أولئك العلماء الذين يُلمَزون بهذا ما زادهم كبر السن إلا اتّقادا في أذهانهم وكَمَالا في عقولهم وحسن فهمهم، أما التخطئة والتَّصوبة فواردة على الجميع.

أقول: إن مما تستجلب به رحمة الله أن تحقق اتباعك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أعظم هذا وما ألذه، وإن كنتَ ستجد مشقة من الناس في هذا الباب، كثيرٌ من الناس يدّعون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يُرضيهم أن تُحقق اتباعك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الخير لك أن تحقق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

سبق أن ذكرنا أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم يحقق للعبد محبة الله، وهنا نقول: إن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم يجلب للعبد رحمة الله.

-       كما أن رحمة الله تُسْتَجلب برحمة خلق الله، فمن صفات المؤمن أنه يرحم خلق الله، ومن صفات السلفي الصادق أنه يرحم خلق الله، يرحمهم ويرفق بهم، ومن رحمته بهم أنه قد يُغْلِظ أحياناً عليهم رحمةً بهم.

فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً    فليقس أحيانا على من يرحمُ

فرحمة الله عز وجل تُستجلب برحمة المخلوقين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَن لا يرحَمِ النَّاس لا يرحَمه الله )، متفق عليه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارحموا من في الأرض )، رواه الترمذي وصححه الألباني.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، رواه أبو داود وصححه الألباني.

ورحمة العبد للمخلوقات ولو كانت دوابا تجلب له رحمة الله، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنِّي لأذبحُ الشَّاةَ وأنا أرحَمُها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والشَّاةُ إن رحِمتَها رحِمَكَ اللَّهُ )، رواه أحمد وصححه الألباني.

-       ومن أراد اللهُ رحمته وفقه للرحمة، ومن أراد شقاءه نزع الرحمة من قلبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تُنزَع الرحمة إلا من شَقي )، رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.

-       ومن اتصف بالرحمة في الدنيا رُحِم في الآخرة وكان من أهل الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ).

( وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسطٌ متصدق موفق )، ذو ولاية عادل موفق متصدق، ( ورجلٌ رحيمُ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم )، رجل رحيم القلب لكل ذي قربى ومسلم، هذا من أهل الجنة ومن أولى الناس بالجنة، ( وعفيفٌ متعففٌ ذو عيال )، عنده عيال وفقير، فهو ذو حاجة وفقير، ومع ذلك متعفف وعفيف، ولا يسأل الناس شيئاً، فهو من أولى الناس بالجنة، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح.

 

{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }:

-       الله عز وجل من فضله وإحسانه أوجب على نفسه الرحمة، بل وجعلها سابقةً غالبةً لغضبه سبحانه وتعالى، وهذا يدل على رحمة الله سبحانه وتعالى.

 

{ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }:

-       المغفرة هي ستر الذنوب مع الوقاية من آثارها، ليست سترا مجرداً، هي سترٌ مع فضل، ستر الذنوب مع الوقاية من آثارها، فالمغفرة متضمنة للوقاية من شر الذنوب، ولرضا الله سبحانه وتعالى، فهي ستر مع فضل.

وسيأتي إن شاء الله قريبا الكلام عن العفو والمغفرة، وسأفرق هناك إن شاء الله لكم بين العفو والمغفرة والسَّتْر المجرد، سيأتي هذا في موضع قريب فنتكلم عنه إن شاء الله، والرحيم تقدم الكلام عليه.


الآية التالية فيها كلام طويل عظيم النفس، جيد التحقيق لعلماء أهل السنة، فلعل من المناسب أن نؤخر الكلام عنها إلى الدرس القادم إلى يوم السبت القادم إن شاء الله عز وجل، لتكون النفوس في أول إقبالها، فإن النفوس في آخر الدرس تكون قد كلّـت وملّت، وأدبرت، فلعلنا نقف عند هذا الموطن ونتكلم عن الآية الأخيرة التي أوردها المؤلف فيما يتعلق بصفة الرحمة في أول الدرس القادم قبل أن ننتقل إلى صفة الرضا وصفة الغضب، ونتكلم عما يتعلق بها.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن عرفه فَرَجاه وخافه، وأحسن سَيْره إليه، وأسأل الله عز وجل أن يرزقنا بفضله محبته ورحمته، وألا يعاملنا بما نحن أهلُه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ومالي وللدنيا

إذا جلست في غرفتك وحدك ...

إني براء من الأهواء وما ولدت...

النظر إلى الحرام

غربة أهل الاستقامة - للشيخ محمد بن هادي المدخلي

سبحان الله !! طالب علم ليس له ورد بالليل ..عشنا وشفنا - للشيخ رسلان